أميركا تتغير. هذا هو العنوان العريض الذي يمكن وضع كل العناوين الصغيرة تحته. أميركا اليوم غير أمس. وهي تتغير على المستويين: الخارجي والداخلي.
خارجيا تتجه السياسة الاميركية نحو اعتماد استراتيجية الهجوم. والهجوم الوقائي، وفق التسمية التي اطلقت لشرح الخطوات التي اعتمدت بعد ضربة 11 سبتمبر/ أيلول، يعني توجيه ضربة عسكرية او سياسية ضد الخصوم قبل ان يفكر بها الخصم او على الاقل قبل ان يستكمل ادوات الهجوم. وهذا الهجوم الوقائي يفترض الكثير من المعلومات المخابراتية التي قد لا تكون صحيحة وربما يكون معظمها يقع في دائرة الاوهام والمخاوف. فالمعلومات المخابراتية ليست بالضرورة ان تكون صحيحة او دقيقة فهي تستقي مادتها من اجهزة مجهولة لها مصالحها الخاصة وطموحاتها ومطامعها التي تريد استدراج قوة كبرى نحو معركة صغيرة بهدف استنزافها احيانا او لتحقيق اهداف خاصة لاطراف أو هيئات قد لا تتفق كثيرا مع التوجهات الاميركية. فالأجهزة دائما تملك آليات داخلية تصنع الاخبار او تفترضها بغية حماية نفسها او تبرير دورها والدفاع عن مصالحها. وبعض الاجهزة تلجأ الى اختراع المعلومات أو تضخيمها حتى يعطي لنفسه حق البدء في توجيه الضربة الاستباقية. واحيانا يكون جهاز المعلومات ضعيفا للغاية فيلجأ الى التضخيم او الافتعال او استخدام قوة صديقة كبيرة وتوريطها في معركة ليست معركتها لكسب اغراض وتحقيق غايات تفيده كطرف محلي وتضر القوة الكبرى التي استخدمها نيابة عنه.
ومعنى الكلام ان اميركا التي انتقلت من استراتيجية الاحتواء إلى استراتيجية الهجوم الوقائي باتت عرضة للاخطاء والمغامرات العسكرية العشوائية لأنها مضطرة إلى الاعتماد على معلومات مشوشة تتلقاها من جهات سياسية متعاملة او اجهزة مخابراتية عالمثالثية تنقصها المعرفة والدراية والدقة في المعلومات.
الأخطر من المستوى الخارجي هو المستوى الداخلي. فالأول يطال العالم والثاني يمس النمط الأميركي ويؤثر مع مرور الوقت على الشخصية الأميركية وتمايزها التاريخي عن دول (امم) العالم. ومنذ ضربة 11 سبتمبر اتبعت الادارة الأميركية سياسة الهجوم الوقائي الداخلي ايضا فهي بدأت تشن حملات أمنية ضد تجمعات أو مجموعات لونية أو دينية في مختلف المدن بذريعة أن تلك «الكبسات» تقع ايضا تحت قانون الضربات الاستباقية ضد جهات يفترض أنها تخطط أو تفكر في التخطيط أو تنوي يوما ما (ربما بعد مئة سنة) ارتكاب جريمة ضد الانسانية كما حصل سابقا في اكلاهوما ونيويورك وواشنطن. وهذا يعني ان الادارة الاميركية باسم الأمن الداخلي تعرّض فكرة الحريات للاهتزاز وتضع كل المجموعات القاطنة في طول البلاد وعرضها تحت طائلة القانون والشك.
هذا الجانب هو أسوأ ما يمكن أن تصل اليه الولايات المتحدة في تعاطيها مع أمنها الداخلي. وهو أسوأ بدرجات من تلك الفترة التي اطلق عليها «المكارثية» حين شنت الأجهزة سلسلة هجمات وقائية ضد كل مشتبه وردت عنه معلومات (معظمها غير دقيق ومشوش) عن توجهاته اليسارية أو الشيوعية أو السوفياتية. وانتهت «المكارثية» الى محاكمة تاريخية بسبب تجاوزاتها ولكنها قبل أن تنتهي كادت أن تطيح بكل ما هو «جميل» و «مميز» في الشخصية الأميركية. فالمكارثية حولت المجتمع الى هيئة وشايات ونميمة وبات الممثل الفاشل في هوليوود يشي بزميله الناجح ويفسد عليه لدى الاجهزة متهما اياه باليسارية والشيوعية.
هذا الأمر تكرر على مختلف المستويات والقطاعات إلا أنه تركز بشكل رئيسي على الجوانب الابداعية في الولايات المتحدة فطورد عشرات الأبرياء وحرمة المئات من العمل ووضع الآلاف من الناس تحت المراقبة لمجرد التقاط الأجهزة الأمنية معلومات غير مؤكدة عن هذا أو ذاك. وطاولت ما سمي آنذاك «اللائحة السوداء» عشرات آلاف المفكرين والنقابيين والسينمائيين وكل الفاعلين في المجتمع الاميركي الأمر الذي اسهم في هروب المئات خارج الولايات المتحدة وانكفاء الآلاف، وامتناع الآلاف من السفر والتوجه للاقامة في بلد تحول من «حلم» الى «كابوس».
الآن هناك موجة مخاوف أمنية في أميركا أسوأ بكثير من المكارثية. فالمكارثية الأولى سياسية (أيديولوجية) أما المكارثية الثانية (الجديدة) هي طبعة سيئة لأنها تقلت الظن بالمواطن من السياسة الى اللون، ومن الأيديولوجية الى المعتقد الديني. وهذه كارثة حقيقية لا تهدد الشخصية الأميركية في تطورها التاريخي بل تلحق الضرر بالأمن الأميركي لأنها تضع مئات المجموعات اللونية والدينية في دائرة الشك والمراقبة والمداهمة والانذارات (كما حصل حديثا مع طلبة البحرين في الجامعات) وربما الملاحقة وصولا الى الطرد.
اميركا تتغير وأسوأ علامات تغيرها أن ادارة البيت الأبيض قررت تسليم «ملف الارهاب» التابع الى وزارة الخارجية الى الوزير السابق السيء الصيت هنري كيسنجر. وهل هناك علامة أسوأ من هذه
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 92 - الجمعة 06 ديسمبر 2002م الموافق 01 شوال 1423هـ