قالت ميعاد: شفت فيلم قبل يومين، البنت اللي في الفيلم ماتت لما الشجرة مالتها طيّحت كل أوراقها، أنا رمشتي تشبه أوراق الشجرة، صح بابا؟ بقلق بالغ، رد هيثم قائلاً: لا حبيبتي، نحن مش أشجار. فقالت ميعاد: لكن الأوراق تشبه الرموش، كلها تطيح. فرد هيثم: بس الأوراق والرموش تنبت مرة ثانية وثالثة ورابعة، لا تفكرين واجد، بتكونين بخير إن شاء الله. ظلت ميعاد تحدق للمرة الأخيرة في المرآة، التي اشتراها لها والدها اليوم كما طلبت منه، ثم تركتها جانباً... أكملت اللعب بارتباك، الى أن نامت. كان هيثم يراقبها بصمت، ثم أندس في فكر بالماضي، غرق في تلاطمات أمواجه، كانت موجاته تخرّب استقرار راحته، أغلبنا يشبه سطح البحر، فأدنى حركة، تخلق بنا دوائر اضطراب.
بعد أن نامت ميعاد على سريرها، تطلّع إليها حائرا يفكّر في نفسه: هذا الرأس الأصلع ذات مرة، كان مزروعاً بأنعم وأكثف شعر، حريري أسود. كل هذا الشحوب على وجه ميعاد كان دخيلاً عليها، فقد كانت ذات خدّين ورديين، وعينين تشبهان مصابيح إنارة. قلبها كان مبتهجاً بأكثر من تعبير، بعينيها اللتين تلتمعان كنجوم، بفمها عندما ترسم ابتسامة عليه، بخديها عندما تؤازران ضحكتها بشموخ. فكيف أصبحت ميعاد على موعد مرتقب مع الموت؟
امتلأت عينا هيثم بالدمع، تناول تلفونه الجلاكسي، والتقط لها صورة قريبة، خزّن رمشتها الأخيرة؛ وهي مازالت مزروعة على الجفن العلوي للعين اليسرى. سيحتفظ بها وسيريها الصورة عندما تغدو بخير، تذكّر منال زوجته وأم ميعاد، كم كانت تحب الرموش السوداء الكثيفة، وبالرغم من أن لديها رموشاً طويلة، لكنها كانت خفيفة أيضاً. الى ان وجدت حلاً لها، فقد كانت تذهب الى (إكستريم لاشز) في بريق الشاطئ وتركّب رموشا مستعارة، وكم كانت ذات نظرة فاتنة! ما إن تضحك حتى ترقص الحياة على أنغامها، ما إن تفتح عيناً وتغلقها حتى تنهي مشكلة كادت أن تقع. هل يمكن أن تكون لأحدهم كل تلك السطوة، ثم يباغته الموت فجأة باقتناص عافيته! ويجره الى الموت سريعاً؟ هل يمكن أن يحدث هذا؟
قبل ثلاث سنوات، كانت منال هنا أيضاً في مكان ميعاد، كلتاهما جابهتا المصير نفسه بكل نبل الصبر والشجاعة، كان هيثم يبكي وينتحب مهزوماً، خاصة عندما بلّغه الدكتور بأن منال مصابة بسرطان الدم، وفشلت منال عندما حاولت تهدئته ليتمالك نفسه. ولكنه كان معذوراً، ومذعوراً، سيخسر عالمه كاملاً إذا رحلت عنه منال. وتركته وحيداً من دونها.
بعد صراع سنة كاملة مع المرض ماتت منال، تاركة ميعاد في الخامسة من عمرها، لم ترها بملابس مدرسة في أول يوم دراسي لها، وكم كانت تثرثر بسعادة في أمنية ما لحقت أن تعيش لتراها تتحقق! تختارنا الأمنيات أكثر مما نختارها؛ لأنها تعلم بأنها قصيرة الأنفاس، وتقصر أنفاسنا ونحن نلهث جرياً خلفها، دون أن تطلقنا من قبضتها لنتنفس كما نريد، ولا تتحقق كما ينبغي فنتحرر منها، بل إنها تظل معلّقة بين الحلم والواقع. فلا هي تتحقق ولا نحن نتحرر، فما أخبث لعبتها معنا تلك الأمنيات!
خرج هيثم في الساعة العاشرة من المستشفى، سلك ممراً مظلماً مؤدياً لسيارته، دخلها ثم قادها، في الطريق استوقفت الأشجار وأوراقها نظره، فكّر في نفسه قائلاً: هل الوريقات هي من تعطي للشجرة الحياة، أم أن حياة الشجرة تحسب بعدد وريقاتها؟
كان لا يزال يفكّر عندما وصل لبيته الفارغ، كم كان مبعثراً! تغيرت ملامحه تماماً، دخل غرفته، نظر للمرآة، رأى شخصاً لا يشبهه، كل ذاك العبوس! من أين يتسلل الى ملامح البشر بغتة! ما أطول لحيته! كم ظل يربي شعيراته هذه؟ تذكّر المدير البارحة صباحاً، قال له مازحاً: بيغيبوا الزبائن إذا ما غيرت هذي الطلة، بنزيد راتبك، بس مر على الحلاق. أرجوك. تجاعيد كثيرة زحفت الى وجهه، لا لا لم تزحف؛ بل قفزت فجأة كحصان في حلبة سباق، أبى إلا أن يتسابق مع سرعة الزمان، في عمر الثالثة والثلاثين، لكنه يبدو بعمر الخمسة والأربعين، مذ متى كبر كل هذه السنوات! ظل متعجباً من نفسه. جر أذيال الغم معه الى الفراش، حاول أن يعمّق نومه، شرب حبة منومة، كان متعوداً عليها، لم تعد تجدي نفعاً، لكنها طقوس ليلية لابد منها.
تحسّس أجفانه، ومرّر أصابعه على رموشه القصيرة وهو يفكّر: هل من المعقول أنها قد تكون مؤشر حياة، كما قالت ابنته؟ ظل الليل بطوله يحلم، ولا يفهم ما يحلمه. وعندما استيقظ صباحاً، لم يتذكر شيئاً من أحلامه. بدا مرهقاً شاحباً، ثمة هالتان تحيطان بعينيه الغائرتين، امتدتا بإفراط حتى كادتا تصلان لخديه، أوقفتهما حدود التوزيع الطبيعي لهما، خافا إن هما امتدا أكثر من ذلك، أن يتحولا سواداً لكلف ما.
تباطأ كثيراً، وتأخر عن العمل، اليوم داوم في شركة التأمين بضجر لم يسبق أن اختبره، كاد يصرخ في وجه الزبائن مستهزئاً: هل تعتقدون أن التأمين كاف لحفظ ما تحبونه؟ بل إنه بالذات يجعل ما نخاف عليه تحت دائرة الانتشال أكثر من غيره، يجعله في الخطر القريب، يحيطه بالقوى التي تخطفه سريعاً، التأمين ليس إلا وثيقة ميلاد لقلق على ما نؤمنه، يجعل المؤمن أكثر خوفاً من الخسارة، أقرب الى الفقدان، التأمين يذكرنا بما هو غال علينا ويمكننا ضياعه في أي لحظة، عند امتلاك سعادة ما، تفقدون كل شيء تحبونه. هكذا يكون التأمين.
بعد الدوام، ذهب لميعاد، لم يشتر لها شيئاً اليوم، بدت مخاوفه الآن مما يقتني لها، خاف أن يجلب لها شيئاً بحب، ومن ثم يتحول الى هاجس خوف أو حلم مرعب كليلة الأمس، خاف أن يقتني شيئاً، لتراقب فيه ما يمكنها أن تفقده. دخل اليوم عليها، وجدها على الأرض كالأمس تماماً، تفترش ألعابها، ديناصورات بلاستيكية على الأرض مصفوفة بعناية، الكبير موضوع في المقدمة، البقية خلفه يتبعونه، وثمة ديناصورات مصففة في حلقة، ميعاد كانت تجلس في قلب الحلقة.
هذه الفتاة منذ صغرها لا تشبه باقي الفتيات الصغيرات أبداً، فهي لا تلعب بدمى باربي، ولا تصنع قلادة زهور، ولا تطير كالفراشة بجناحين مصطنعة، ولا تحوم كنحلة راقصة، ولا تلبس فستاناً أبيض، وتدور، لتتباهى به، ولا تفك شعرها للهواء كي يطير. هي دائماً تشبه رجلاً صغيراً يود أن يكبر سريعاً. جلس بجانبها داخل حلقة الديناصورات، تطلعت إليه تبتسم، اليوم تبدو سعيدة حقاً عكس الأمس، أما أبوها، فحتى السعادة تخيفه، سمع ذات مرة أن الطيبين يبتسمون كثيراً قبل ان يرحلوا، أو يموتوا وهم مبتسمون. كانت ابتسامة حقيقية، ممتدة تشرق على الوجه بأكمله، تناولت من صندوق بجانبها كلينكس مطوياً بعناية، قربته من وجهه، ثم فتحته، وقالت له: بابا شوف، طاحت اليوم الصبح، وأنا أغسل وجهي، كلامك طلع صح، الأشجار ما تشبهنا، أنا ما مت اليوم.
نظر الى بياض الكلينكس، وجد بداخله رمشة صغيرة، سوداء.
* القصة من المجموعة القصصية التي حملت عنوان «روزيشيا» الصادرة في العام2017م، للقاصة العمانية إشراق النَّهدي، وقد صدرت عن بيت الغشام للصحافة والنشر والترجمة والإعلان، ومقره عُمان
يا علييي،، القصة جدا جدا معبرة ..
أوجعتني ولامست قلبي..
ألم الفراق صعب صعب صعب والفقد أصعب منه
القلب ماعاد يتحمل شي
آه وثم آه يا ريت لو الميت يعود يا ريت