ما الذي تمنحنا إياه الحروب؟ هل ثمة منح أساساً في الجحيم؟ يصادر القبح كل حق للإنسان. إنه يصادر قدرته على تمتّع حواسه بتلك القيمة التي تمثل حقاً رئيساً من حقوقه الطبيعية في هذا العالم، الذي هو قائم أساساً على الدقة والجمال في الوقت نفسه. عالمنا اليوم أكثر شرهاً واستعداداً لقيام الحروب، بفعل سياسات نتلمَّس الجوانب الخرقاء فيها، تلك التي تقودنا يوماً بعد يوم إلى مأساة يكررها الإنسان بسخاء فادح. سخاء تحويل هذا الكوكب إلى اثر بعد عين.
الحروب تبدأ بنسف كل قيمة جمالية يمكن للإنسان أن يكتشف جمالياته من خلالها. وفي الحديث عن الحروب، لم يكن درس الحرب العالمية الأولى كافياً للدول الكبرى في العالم كي تتجنّب المُقبل من تلك الحروب. حتى وإن فعلت هي من جانبها، ثمة من يرى في الحرب قدرته على تحقيق سلامه الشخصي! هتلر لم يكن بعيداً عن تلك الرؤية والاقتناع بها بعد سنوات من انتهاء الحرب الأولى فكان اجتياحه لبولندا. لم يُتح الوقت الكافي كي تلتئم الأرواح والأنفس المهشّمة من الحرب الأولى؛ ليكون العالم على موعد مع حرب كونية ثانية كانت نتائجها ومحصّلاتها والضحايا الذين تجاوزوا الأولى بكثير. 100 يوم من تلك الحرب تم رصدها لشراستها والحسم الذي حققته على الجبهات في نهاية المطاف، وتم جمعها في كتاب نشر على حلقات في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية علاوة على عددها الأسبوعي الذي يصدر كل يوم أحد.
جون ليتشفيلد حرّر الحلقات التي تم نشرها بتاريخ 6 يوليو/ تموز 2014، هنا ملخص لواحدة منها:
كيف يمكنك أن تذكر الحرب التي دمرت أربع إمبراطوريات، وقتل فيها 18 مليون شخص، وتُرك عشرات الملايين من الأحياء بأرواح منكسرة لا يمكن جبْرها؟
فيما يحيي العالم الذكرى المئوية لصراع لم يترك أي ركن من أركان الكوكب لم يمسه، تعطي هذه المختارات الفريدة (نشرت في الأصل على شكل سلسلة يومية في صحيفة الإندبندنت، والإندبندنت في عددها الأسبوعي كل يوم أحد) شعوراً بأن الغموض يلف فصلاً كبيراً من التاريخ الإنساني من خلال تمريرها واختزالها إلى مجرد 100 «لحظة»... يوم: سواء كانت الحلقات، كبيرة أو صغيرة، يتم وصفها في كثير من الحالات من خلال كلمات أولئك الذين كانوا هناك، في العمق من تلك الحرب، وذلك في اتجاه واحد أو إمساك بالشعور الذي كان عليه المحاصرون في كارثة الحرب العالمية الأولى.
اختيارنا لتلك اللحظات هي، حتماً، مجرد بضع قطرات في محيط ملايين القصص المماثلة للمأساة الفردية وكذلك البطولة التي لم تخْل منها تلك الحرب. نأمل، مع ذلك، أن تساعد القرّاء على تخيّل ما الذي يمكن أن يشعر به الإنسان حين يعيش تلك السنوات الرهيبة. اختيارنا الزمني يحكي قصة كارثة تغيّر العالم من وجهات نظر عديدة مختلفة: عسكرية ومدنية، من الذكور والإناث، الكبار والصغار. كما يتم فيها تمثيل العديد من جنسيات مختلفة، ويتم التطرق حتى إلى دور الحيوانات في تلك الحرب.
في 8 أغسطس/ آب العام 1918، أصبحت حرب الخنادق فجأة من التكتيكات التي عفا عليها الزمن. القوات البريطانية والكندية والأسترالية والفرنسية، وبدعم من 456 دبابة وألفي بندقية ومدافع هاوتزر، تمّت هزيمة الألمان في جبهة الشرق وصولاً إلى 14 ميلاً من أميان بفرنسا.
انهارت - للمرة الأولى - منذ بدء الحرب، قوة ألمانية كبيرة تحت كثافة النار. تقدم الحلفاء ثمانية أميال، وتم الاستيلاء على 400 من البنادق وأخذ 12000 ألفاً كأسرى.
وعلى مدى المئة يوم المقبلة، استعاد الألمان قوتهم وغالباً ما قاتلوا بعناد أكثر من أي وقت مضى. لكن القوات الأميركية قامت بتعزيز قوة الحلفاء، وتم تطوير تكتيكات وإمدادات بالسلاح جديدة، كل ذلك أحدث مفاجأة للألمان، ودفعهم إلى التراجع، ببطء شديد وكان دموياً جداً، إلى الحدود البلجيكية.
«كان الثامن من أغسطس الأشد سواداً للجيش الألماني في تاريخ هذه الحرب» ذلك ما كتبه القائد الألماني، إريش فون ودندورف، في وقت لاحق. «استسلمت الهيئات كاملة من رجالنا لقوات مفردة، أو تم عزلها فيما يشبه الأسراب». في اليوم السابق، حذّر كايسر فيلهلم، وكان رقماً هامشياً قبل هذا الوقت، ودندورف قائلاً: «لقد وصلنا إلى نهاية قدرتنا. يجب أن تنتهي الحرب».
في مارس/ آذار، كانت القيادة العليا الألمانية قد شنّت هجوماً كبيراً نهائياً في محاولة لكسب الحرب - أو إجبار الحلفاء على شروط سلام مواتية - قبل أن يتم نشر القوة البشرية والقوة الصناعية الأميركية بشكل كامل. بعد النجاح الأوّلي، كان الهجوم في يوليو عميق الضرر، أدّى إلى خسائر جسيمة للعملاق الألماني.
بحلول صيف العام 1918، كانت القوات الأميركية تتدفّق إلى أوروبا بأعداد كبيرة. وكانت القوات البريطانية للتو عادت من فلسطين. فيما وافق رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج، على تسوية انقسامات جديدة للمجندين البريطانيين.
كانت موجة من هجمات الحلفاء بمثابة سلسلة من أمصال الملاكمين - الفرنسيون والأميركيون في الجنوب. الكنديون، الأستراليون والبريطانيون في الشمال - دفعت الألمان إلى التراجع ببطء. بعض الذين تم أسْرهم ما بين مارس ويونيو كان غارقاً في الدماء.
كان لدى جنرالات الحلفاء مئات من الدبابات التي تم تحسينها لقيادة الهجمات. لديهم مدفعية أكثر دقة وأفضل تنظيماً يمكنها أن تكون فعَّالة أكثر، ويمكنها الزحف باتجاه أهدافها للمرة الأولى. لقد تعلموا أخيراً كيفية الجمع بين المدفعية والمشاة والدبابات والطائرات.
بحلول منتصف سبتمبر/ أيلول، تراجعت القوات الألمانية وراء معقل كبير (خط هيندينبيرغ) الذي يقع عند ثلاثة أميال في العمق. هل يمكن للحرب الثابتة الجديدة وسط الطين والخنادق والأسلاك الشائكة إطالة الصراع إلى العام 1919 أو حتى 1920؟
في أواخر سبتمبر، هاجمت القوات البريطانية والفرنسية وبقايا الجيش البلجيكي بالقرب من ابرس في الشمال. قام البريطانيون والكنديون والأستراليون والأميركيون والفرنسيون بمهاجمة وسط الخط الألماني قرب سان كوينتين. أطلق الأميركيون والفرنسيون هجوماً أسموْه «ميوز - أرجون» في الجنوب.
بعد 10 أيام من القتال الدائر، اخترق البريطانيون والأستراليون والأميركيون المنطقة قرب سان كوينتين. وتم تجاوز آخر استعدادات المواقع الألمانية بحلول الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول.
عملت وساعدت الأسلحة والتكتيكات الجديدة؛ على استنفاد القوات الألمانية. الهجوم على سانت كوينتين تم التخطيط له من قبل الجنرال السير هنري رولينسون، وكان يهدف إلى الاستنزاف في مرحلته الأولى؛ وكان خارج نطاق التصور. إنه جزار السوم في العام 1916. لقد قام بتحويلها إلى واقع جديد. إنها الحرب المفتوحة، وأكثر «اقتصادية» بوجود جنود أحياء.
في الحقيقة، لم تكن حملة الـ 100 يوم اقتصادية مع الأرواح التي أزهقت. قد تكون حرباً مفتوحة وميكانيكية أكثر ولكن «المشاة البائسين» ماتوا في جماعات حاشدة.
معارك 1918 - آميان، مونتديديير، باباوم، مونت سان كوينتين، فوكسيلون، إيبي - لم تنسف ذاكرتنا الجماعية مثل فردان والسوم أو Passchendaele. فمن السهل أن نفترض أنها كانت غير مؤلمة نسبياً. سواء بأسلحة جديدة وتكتيكات أم خلاف ذلك، فإن عدد ضحايا الـ «100 يوم» من المعارك التي أنهت الحرب، تروي قصة مختلفة نوعاً ما.
تكبّد الفرنسيون 531,000 من الضحايا (القتلى والجرحى والأسرى) في تلك الأشهر الثلاثة، كان تقريباً ما يصل الى ثمانية أشهر في فردان في 1916. البريطانيون (بما في ذلك القوات الإمبراطورية) تكبّدوا 411,000 من الضحايا - هو العدد نفسه تقريباً في الأربعة أشهر ونصف الشهر في السوم. وتكبّد الأميركيون 127,000 من الضحايا، أي أكثر من ضعف العدد الكلي للإصابات الأميركية في حرب فيتنام.
خسائر الحرب العالمية الأولى
تضعنا موسوعة «ويكيبيديا» أمام أرقام مهولة للخسائر البشرية خصوصاً التي تمخّضت عن الحرب العالمية الأولى، مع استثناء الخسائر المادية التي لحقت بالبُنى التحتية لعديد الدول التي كانت طرفاً في الحرب، سواء من طريق مباشر، أو غير مباشر.
كان العدد الكلي للإصابات والقتلى في صفوف العسكريين والمدنيين في الحرب العالمية الأولى أكثر من 37 مليون نسمة. مقسّمة إلى 16 مليون حالة وفاة و 20 مليون إصابة؛ ما يجعله من أكثر الصراعات دموية في تاريخ البشرية. يتضمن العدد الإجمالي للوفيات نحو 10 ملايين عسكري ونحو 7 ملايين مدني. فقدت قوى الحلفاء نحو 6 ملايين جندي، بينما خسرت قوى المحور 4 ملايين جندي، ومليونين على الأقل ماتوا بسبب الأمراض و6 ملايين في عداد المفقودين، ونحو ثلثي قتلى الجنود كانت في المعارك.
وهنا قائمة بعدد قتلى الجنود والاصابات القائمة تقريبية: خسرت ألمانيا نحو مليوني عسكري. الإمبراطورية العثمانية: نحو 700 ألف جندي. الولايات المتحدة: نحو 100 ألف جندي. المملكة المتحدة نحو 800 ألف جندي. وفرنسا نحو مليون و300 ألف جندي.