يبدأ الكاتب والرحَّالة والروائي الفرنسي - اليوناني لوران بيني روايته الجديدة «الوظيفة السابعة للغة»، بافتراضٍ يرتبط بعلامة من علامات الثقافة والفكر الفرنسي والعالم أيضاً، إنه رائد السيميولوجيا، رولان بارت. الافتراض يبدو صارماً وربما سخيفاً لدى كثيرين ممن قرَّ في أذهانهم وقناعاتهم أن بارت قضى في حادث سير: ماذا لو لم تكن وفاة رولان بارت مجرد حادثة، بل جريمة قتل؟ المخطط يتضمَّن في محاولة بحثه أسماء كبيرة ولامعة من أمثال: جاك دريدا وأمبرتو إيكو، عن مخطوطة مفقودة هي بمثابة الوظيفة السابعة للغة، على خطى العالم اللغوي، والناقد الأدبي الروسي، أحد رواد المدرسة الشكلية الروسية، رومان جاكوبسون (11 أكتوبر/ تشرين الأول 1896-18 يوليو/ تموز 1982)، الذي توقف عند ست وظائف للغة.
الوظيفة السابعة سلاح جِدُّ خطير على النوع البشري، وحين يتسنَّى لأحد امتلاك أسرار تلك الوظيفة، سيتمكَّن من السيطرة على أي شخص من خلال الإقناع. ربما يكون السياسيون هم الأكثر ارتباطاً من جهة الخطورة التي تمثّلها الوظيفة السابعة للغة، بحكم صدارتهم وتصدِّيهم للقرارات السياسية الكبرى التي تقرر مصائر شعوب وبلدان.
من هنا تحيلنا الوظيفة السابعة للغة إلى تلك المساحات التي تتبدَّى على الأرض من خلال سيطرة وهيمنة السياسيين في العالم اليوم على البشر بممارستهم نوعاً من التغرير بالمواطنين. تلك هي الفضاءات التي تتحرك فيها الرواية وما يشبه تقرير اغتيال بارت، من خلال التداعيات التي يضعنا العمل أمامها.
السيميولوجي المغدور
في التقرير الذي تنشره «الوسط»، ويستند إلى عدد من اللقاءات والإضاءات، من بينها ما كتبه أليكس بريستون، في صحيفة «الغارديان»، يوم الأحد (7 مايو/ أيار 2017)، وكذلك ما كتبه محمد الخضيري في صحيفة «الأخبار» اللبنانية بتاريخ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، والحوار الذي قام بترجمته جودت جالي، ونشرته صحيفة «الصباح» في عددها بتاريخ 16 سبتمبر/ أيلول 2015، كل ذلك في محاولة لإيصال مناخ وصور من الجدل الذي مازال مستمراً؛ لا في الدوائر الأكاديمية والبحثية فحسب، بل وحتى في الأوساط الإبداعية، وخصوصاً أن بيني يبحث في قضية كانت محل إجماع بوفاة بارت بسبب حادث سيارة بعد يوم من وقوعه، ولم تشك أي من أجهزة الأمن والاستخبارات الفرنسية في أن ما حدث تكمن وراءه جريمة قتل عمد، ربما تشترك فيها أطراف دولية. بيني في روايته، موضوع الإضاءة، يذهب إلى المسار المضاد، من خلال ما ستتمخَّض عنه بعض الكتابات التي أشرنا إليها سابقاً.
علاقة بيني بالقرَّاء من حيث حضوره، بدأت من خلال كتابه (HHhH) الذي يروي محاولة مظليين تشيك اغتيال مجرم الحرب النازي رئيس الأمن رينهارد هيدريش في براغ العام 1942، ومن ثم كتاب «لا شيء يجري كما كان متوقعاً» ويتناول فيه وقائع الحملة الانتخابية لفرانسوا هولاند، أما في «الوظيفة السابعة للغة»، فيتخيل أن رائد السيميولوجيا الفرنسي، رولان بارت لم يقضِ جراء حادث مروري، حين صدمته شاحنة تابعة لإحدى شركات الغسيل بل تم اغتياله، ليخرج لنا برواية بوليسية، يكون القارئ فيها على موعد مع: ميشيل فوكو، جيل ديلوز، جاك دريدا، وغيرهم، إضافة إلى رجل ياباني غامض اسمه فويجو.
الواقع مادة للتخييل
يعيدنا الكتاب إلى 25 مارس/ آذار 1980، حين كان بارت المولود في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 1915، والمتوفى في 25 مارس/ آذار 1980، يعبر الشارع في طريقه إلى «كوليج دو فرانس» فصدمته عربة غسيل، ليقضي بعد يوم متأثراً بجراحه، منهياً الحادث حياة رجل ومبدع امتد أثره إلى عديد دول العالم.
ربما تحيلنا كتابة محمد الخضيري في صحيفة «الأخبار» اللبنانية بتاريخ 22 أكتوبر 2015، إلى مساحات أوسع وأشمل لما تتضمَّنه رواية بيني، حيث أشار فيها إلى أن الرواية تشكل مادة دسمة للغوص في تعقيدات اللغة وجانبها المظلم دون نزوح إلى التعقيدات المعرفية.
موضحاً في ثنايا كتابته، تعليقاً على الرواية وكاتبها، بأنه على «رغم أنّ بيني يبلغ 43 عاماً، إلا أنّ روايته التي تجعل من الواقع مادة للتخييل، تقترب كثيراً من (الحقيقة) التاريخية للأفراد الذين تحكيهم، وفق نقاد مجايلين للحقبة. إنها فوتوغرفيا أمينة نوعاً ما عن المناخ الذي عاشته الساحة الفكرية الفرنسية في الثمانينيات، والصراعات السياسية التي تشكَّلت حينها، لوصول الحزب الاشتراكي إلى الحكم مع فرنسوا ميتران».
مشيراً إلى أنه «من فوكو إلى دولوز ومروراً بأمبرتو إيكو، تصير الرواية سبراً في الحياة الثقافية الفرنسية، بارت - وفق حبكة الرواية - كان يحمل يوم الحادث ملفاً سرياً يحوي معلومات عن الوظيفة السابعة للغة التي تهب صاحبها القدرة على بلاغة منقطعة النظير! يفترض الروائي بيني أنّ يعتمد تقنيات القصص البوليسية للانطلاق في مغامرته الروائية التي ترسم على غلاف الكتاب سؤالاً عريضاً: من قتل رولان بارت؟ هكذا يضطر محقق من الاستعلامات العامة، شبيه بالشخصيات السينمائية، إلى التحقيق في حادث الاعتداء بأمر من المكتب الرئاسي لفاليري جيسكار ديستان، الذي يعلم أن العثور على وثيقة شبيهة سيعيده إلى هرم السلطة الفرنسية. يستعين المحقق عنوة بأستاذ مساعد للسيميولوجيا، من جامعة باريس الثامنة، معقل اليسار والفكر المجدد في الثقافة الفرنسية خلال النصف الثاني للقرن العشرين، يرافقه في بحثه عن قتلة رولان بارت. تتدافع الشخصيات التاريخية في الرواية، فيستحضر منها: ميشال فوكو، وجيل دولوز، وجاك دريدا، إلى جانب جوليا كريستيفا ولوي ألتوسير وآخرين».
تعقيدات اللغة تقابلها السخرية
وفي تفاصيل العمل يبيِّن الخضيري جوانب منها بالإشارة إلى أن «الضابط الذي يلتمس الحقيقة، يكتشف نادياً غريباً للقتال خلال تحقيقاته. لكنّه ناد لا يعتمد القوة البدنية في القضاء على الخصوم، كما في رواية (نادي القتال) لتشاك بولانيك «الذي يستلهمه بيني في روايته، بل يعتمد فيه كل مقاتل مثقف المهارات اللغوية والبلاغية لدحر الخصوم، بينما عقاب الخاسر قطع أصبعه. في مقابل المعارك السوريالية للنادي، تدور معركة شرسة بطلاها مرشحا الرئاسة العام 1981 فاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران اللذان يعيشان أوج حملتهما لبلوغ السلطة».
يُذكر أن رواية «نادي القِتال» هي أولى روايات الأديب الأميركي بولانيك، وصدرت في العام 1996. تحكي الروايةُ قصّة رَجلٍ يُعاني من الأرق فيبحث عن طريقة ليستطيع النوم، فيجد الراحة من خلال جلسات العلاج النفسي الجماعي، ثم يُقابل صديقه تيلر ديردن ويُنشآن معاً نادٍ للقتال.
ويوضح الخضيري بأن التحقيق «يدفع بالرواية إلى الانتقال من جامعة باريس الثامنة، إلى إيطاليا وتحديداً جامعة بولونيا، حيث أمبرتو إيكو الوحيد الذي لم تجعله الرواية شخصية كاريكاتورية، والبندقية ونابولي؛ وصولاً إلى جامعة كورنيل الأميركية مروراً بملاهٍ مثلية، ومطاعم، ونهائي دورة ويمبلدون للعبة التنس العام 1980».
وتناولاً لجوانب فنية من الرواية يكتب الخضيري بأن الكاتب يستعيض «عن تعقيدات اللغة بالسخرية، فيلتقي القارئ ميشال فوكو في حمام سونا، ويشهد بطل الرواية حوادث غريبة ومعاشرة جنسية على آلات طابعة وفي أروقة جامعات، وفي أماكن لا تخطر في بال. تتندر الرواية من شخصيات مختلفة كبرنار هنري ليفي، ووزير الثقافة الأسبق جاك لانغ، والروائي فيليب سوليرس، والوزير لوران فابيوس وآخرين».
حبكة على طريقة إيكو
في السياق نفسه، نقف على حوار أجري مع لوران بيني، قام بترجمته جودت جالي، نشرته صحيفة «الصباح» في عددها بتاريخ 16 سبتمبر 2015، حمل عنوان «من قتل رولان بارت»؟ وكان من بين الأسئلة التي تضمَّنها الحوار، سؤال يتعلق بالمقدمات والأفكار التي أدَّت إلى الاشتغال على الرواية، فكان جوابه: «نقطة البداية كانت اهتمامي بعمل بارت، وشيئاً فشيئاً شمل اهتمامي حياته، فعمله وحياته مترابطان ترابطاً وثيقاً. بدأت بقراءة (مقالات نقدية)، و(ميثولوجيات)، وشكّلت هذه القراءة صدمة ثقافية لي. إن ما يفتن القارئ عند بارت هو قدرته على كتابة نصوص تفسيرية، هي على قدر من الأصالة المُطلقة والوضوح الكبير. ثم جاءت فكرة الكتاب عندما علمت أن رولان بارت كان يتناول طعام الغداء مع الرئيس فرانسوا ميتران قبل أن تصدمه الشاحنة، فقلت في نفسي هذا السياق يشكِّل مادة روائية جميلة».
وعن إعداد الحبكة وما إذا كانت انطلاقاً من هذه الفكرة، قال: «أردت خلفية سياسية وقد أفدت من شخصية ومنصب فرانسوا ميتران ثم تساءلت من هم الأشخاص المحيطون ببارت: فوكو، وسولير، وكريستيفا. ثم وسَّعت الحقل ليشمل لاكان ودولوز، وكان عليَّ بعدها أن أتخيّل لماذا وكيف يمكن لأحد أن يقتل بارت، عندها وضعت الحبكة على طريقة أمبرتو إيكو... مخطوطة يتوق الجميع الى امتلاكها ويمكن أن يقتل من أجلها الجميع. ولكن أية مخطوطة؟ عند هذا المفصل فكرت بأعمال الألسني رومان جاكوبسون عن وظائف اللغة، وتخيّلت أنه يمكن أن توجد وظيفة سابعة، ولم تكن لديَّ فكرة ساعتها عن ماهية هذه الوظيفة، وأخيراً أعطتني المفتاح نظرية الوظيفة (الأدائية) التي اشتغل عليها جي. إل. أوستن، ثم أتمَّ عمله تلميذه جون سيلر».
بارت: ليس عليَّ تأويل نقصاني
العنوان أعلاه كان لحوار نشر للمرة الأولى، بعد رحيل بارت وتناقلته وكالات الأنباء. الصحافي بشير البكر، ومن موقعه في العاصمة الفرنسية (باريس)، يكتب في ملحق «الخليج الثقافي»، الصادر عن صحيفة «الخليج الإماراتية» بتاريخ 28 فبراير 2009، إن الحوار الذي ينشر للمرة الأولى «تم تسجيله في شارع سيرفاندوني في باريس السادسة، في بيت بارت، يومي 23 و24 من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1970، من قبل جون جوزي مارشاند، وكان حينها مديراً لقسم السينما في الإذاعة والتلفزيون الفرنسي، بنيّة إذاعته في سلسلة أرشيفات القرن العشرين التي كان يشتغل عليها دومنيك بابوردان».
الحوار الذي نشرته «ماغازين ليترير» العام 2009، وترجمه البكر، لا يشكّل سوى 10 في المئة من مجمله. لعل من بين الأسئلة في الحوار المشار إليه، الثيمة التي اشتغل عليها بارت نفسه: الموت. على الأقل في حدود كتابه «موت المؤلف» والذي تناول فيه أقانيم (مفاهيم) ثلاثة تؤدي إلى لذة النص: مفهوم النص، الكتابة، ومفهوم القارئ/ القراءة. لن يتوافر للكتابة خلود ما لم تكن مستوية ومحققة للذتها. تلك القيمة (الخلود) تكاد تكون من دون أثر بعيداً عن لذة النص. في الحوار سئل بارت: ما الذي يعنيه بالنسبة له الخلود، أو ما بعد الموت؟
أجاب: «آه! الأمر بالنسبة لي لا شيء، بصفة مطلقة، أعتذر لدى هذا الخلود، ولكنه مفهوم، مقارنة بذاتي، هو في الحقيقة، وبالحرف الواحد لا يمكن تصورُه. لا أعرف، بشكل مطلق، ما يمكن أن يمثله بالنسبة لي الخلود. لنقل، بشكل حسّي، إنه لا يمكنني أن أتخيل ما ستصير عليه كتبي أو كتاباتي بمجرد موتي، أو بعدها. إذاً فهو سؤال وقحٌ، كما يقول اللسانيون. أي ليست له وجاهةٌ بالنسبة لي».
ضوء
يذكر أن رولان بارت، فيلسوف فرنسي، ناقد أدبي، دلالي، ومنظر اجتماعي. وُلد في 12 نوفمبر 1915، وتُوفي في 25 مارس 1980، واتَّسعت أعماله لتشمل حقولاً فكرية عديدة. أثّر في تطور مدارس عدَّة كالبنيوية والماركسية وما بعد البنيوية والوجودية، بالإضافة إلى تأثيره في تطوُّر علم الدلالة.
تتوزّع أعمال بارت بين البنيوية وما بعد البنيوية، وانصرف عن الأولى إلى الثانية أسوة بالعديد من فلاسفة عصره ومدرسته. كما أنه يعتبر من الأعلام الكبار - إلى جانب كل من ميشيل فوكو وجاك دريدا وغيرهم - في التيار الفكري المسمّى ما بعد الحداثة.
بحث بارت عن دلالات اللغة في كتابه «مقالات نقدية» (1964)، ويدور حول نقاط ثلاث أساسية: البحث عن جوهر اللغة، علم الدلالة والأدب، البنيوية والأدب. أما كتابه «عناصر السيميولوجية» فقد نقل هذا العلم إلى القارئ بأسلوب تعليمي. وأصدر بارت في العام 1966 مؤلفه «نقد وحقيق» وهو رد على انتقادات مناصري النقد التقليدي، وفي العام نفسه أصدر مقالاً يبرز الاتجاه نحو البنيوية بعنوان «مدخل إلى التحليل البنيوي للسرد الروائي».
أعماله:
«التحليل النصي»، «الكتابة في درجة الصفر»، «النقد البنيوي للحكاية»، «درس السيميولوجيا»، «شذرات من خطاب العشق»، «لذة النص»، «مدخل إلى التحليل البنيوي للقصة»، «من البنيوية إلى الشعرية»، «نقد وحقيقة»، «هسهسة اللغة»، وغيرها من الأعمال.