مازلنا على حديث الديمقراطية في بلادنا العربية والإسلامية، وعلاقتنا مع أميركا الساعية - قولا - لفرض الإصلاح الديمقراطي علينا، طالما لم نفرضه بأنفسنا على أنفسنا. فقد وضعتنا الحوادث الدرامية والتطورات الساخنة خلال الموسم الأخير، في أكثر من مأزق، وحشرتنا حشرا في تعقيدات كثيرة علينا نحن أن نتعامل معها بأكبر قدر من الوضوح... من تعقيدات الآثار السلبية لهجمات سبتمبر/أيلول ورد الفعل الأميركي العنيف عليها، إلى تعقيدات الاتهامات الغربية المعممة والشائهة للاسلام والمسلمين والعرب عموما، وصولا إلى فرض أميركا نفسها طرفا أصيلا في قضايا داخلية تمس صميم حياتنا، وأبرزها الاصلاح الديمقراطي والتجديد الفكري الثقافي والديني أيضا!!
ها نحن أمام خمسة مآزق متتالية متشابكة:
مأزق أول... يكمن في السؤال الذي تردده أميركا وحلفاؤها وتطرحه علينا بوضوح. من أنتم بالضبط: ارهابيون أم مسالمون، استبداديون، بالثقافة ام ديمقراطيون بالتسلح؟.
مأزق ثان: نحن الشعوب نريد الديمقراطية السلمية ونسعى إلى الاصلاح والتطوير والتحديث - بديلا للتخلف والاستبداد، لكننا نرفض أن تفرض أميركا علينا هذه الديمقراطية والاصلاح فرضا تعسفيا قد يلائمها أكثر مما يلائمنا!
مأزق ثالث: تتعرض النظم العربية والاسلامية الحاكمة هذه الأيام، إلى ضغوط أميركية وغربية هائلة من أجل اجبارها على الاصلاح الديمقراطي، فتتظاهر تارة بالاستجابة وترواغ تارة أخرى، لكنها تعارض هذه الضغوط وتعرقل سرا كل تطور ديمقراطي حقيقي، بحجة مكافحة التطرف والارهاب الذي تكافحه أميركا ذاتها!
مأزق رابع: على غير المتوقع، أدى الضغط الأميركي إلى احتشاد النظم الحاكمة وتساندها معا، للتضامن في وجه هذا الهجوم الأميركي الضاغط بقوة، ودفاعا بالطبع عن مصالحها ومواقعها، وفي سبيل ذلك استغلت موجات الكراهية الشعبية للسياسات الأميركية، سندا لموقفها وتذرعا وتغطية لتعطيل التطور الديمقراطي، في معاكسة صريحة لتطلع الشعوب إلى هذا التطور الانساني.
مأزق خامس: بين نار النظم الحاكمة ونار للضغط الأميركي المكروه، وقع الرأي العام أسير الحيرة لأنه كالمستجير من الرمضاء بالنار، والمطلوب منه الآن أن يختار ويقرر ويحدد مواقفه.
نعم مطلوب من الناس أن تختار وتقرر ولكن المطلوب أولا من العقول المفكرة والضمائر الوطنية والقومية، أن تتعمق الأمور بهمة وشفافية وموضوعية، وتنشط التفكير بروية بحثا عن طريق حاد للاصلاح الحقيقي المقاوم للفقر والفساد والدكتاتورية، التي فشت في العالم العربي والإسلامي، فلم تصبه بالتخلف فقط، لكنها جلبت عليه الاتهامات، بل جلبت على الإسلام كدين تهمة الإرهاب، التي يعلقها على رقبته عتاة المتطرفين في الغرب الأوروبي الأميركي من دون وجل أو خجل!
ولأننا أصبحنا متهمين بهذا الشكل، وخصوصا بعد هجمات سبتمبر على نيويورك بواشنطن، وفي ظل الحمى الأميركية بمحاربة الإرهاب «الإسلامي» قررت السياسة الأميركية بقيادة كبير المصلحين السياسيين والاجتماعيين والدينيين «الرئيس بوش الابن»، أن تأخذ أمورنا كلها بيدها هي، وتجرى من ثم ما تراه صالحا من اصلاحات «ديمقراطية» تفرضها على دولنا بالرضا أو بالاجبار.
ولقد لخص الرئيس بوش أهداف السياسة الأميركية تجاه العالم عموما، وتجاه العالم العربي والإسلامي خصوصا، في سبتمبر الفائت حين طرح ما صار يعرف «بالوثيقة الاستراتيجية للأمن القومي الأميركي» المكونة من 33 صفحة، وأثارت اهتمام العالم كله بما حوته من تحديد للاستراتيجيات الأميركية في الفترة الحالية والمقبلة.
ولعل أهم ما جاء في الوثيقة، هو ذلك الموجه لنا نحن - حتى من دون ذكرنا مباشرة - والذي تعهد فيه الرئيس بأن تبذل الولايات المتحدة كل جهودها وتجند كل امكاناتها كفرض السلام والأمن العالمي، عن طريق ثلاثة مسارات متوازية هي أولا: محاربة الارهاب والارهابيين في كل مكان حتى القضاء عليهم وتخليص العالم من شرورهم، وثانيا إزاحة نظم الحكم الاستبدادية والدكتاتورية التي تسببت بسياساتها الخرقاء في إفقار مجتمعاتنا وكبت حريتها، ومن ثم في تفريخ الإرهابيين وانتاج الارهاب والعنف والتطرف والتعصب، وثالثا فرض الاصلاح الديمقراطي وتشجيع الحريات الأساسية في المجتمعات المتخلفة، التي سقطت في قبضة نظم الحكم هذه، كما تحولت إلى حضانات للارهاب والارهابيين!
والبدائل المطروحة قليلة ومحدودة للغاية في ظروف ضاغطة وصعبة، وتحت تأثير أقوى آلة عسكرية «طائشة» ظهرت في تاريخ البشرية.
فإما القبول المطلق بالاصلاح الديمقراطي الأميركي بكل شروطه، وإما وقوع مغامرة التغييرات الجذرية الراديكالية، سواء بغزو أميركي مباشر - على طريقة ما هو مطروح على العراق - أو بانقلاب عسكري مدعوم أميركيا أيضا، وفي الحالتين تطرح الأدبيات المتداولة في الاعلام ودوائر صنع القرار الأميركي، تجارب ما جرى في أوروبا الشرقية بعد سقوط حلف وارسو والمعسكر الشيوعي!
أما استمرار الأوضاع الراهنة على ما هي عليه، طبقا لنظرية الأمر الواقع، فهو أمر يبدو مستحيلا ليس فقط لأن أميركا تضغط بقوة لإحداث التغيير الذي تريده، ولكن لأن الداخل هو الآخر يضغط من ناحيته لإحداث التغيير الذي يريده هو وليست أميركا، مدفوعا بحاجات ومطالبات عادلة بحثا عن الحرية والكرامة والغذاء والاستقلال ومقاومة القهر، سواء جاء من حكومة بيروقراطية أو من استراتيجية أميركية!
هكذا... تتداخل المآزق وتتقاطع الصعوبات وتتشابك الضغوط، ولذلك قلنا إن الأمر أخطر من أن نتركه إلى جمهور الأمر الواقع، الذي لا يحل المشكلات ولكنه يراكمها انتظاره لمعجزة لن تأتي أبدا، أو أن نتركه ريشة في عاصفة أميركية هوجاء تعرف كيف تعصف بالآخرين، وتضحي في اللحظة المناسبة، حتى بأقرب حلفائها وأوثق أصدقائها، والماضي القريب حافل بالنماذج، من شاه ايران، إلى دكتاتور الفلبين وشيلي والبرازيل حتى الكونغو!
والخوف كل الخوف، أن يؤدي هذا التداخل والتشابك والاضطراب، إلى إجهاض من الاصلاح الديمقراطي الحقيقي والمأمول، الذي بالضرورة لا تعشقه النظم الحاكمة في عالمنا، ولا تحرص عليه الولايات المتحدة إلا بما يحقق مصالحها، إذ طالما تحالفت وحمت نظم فاسدة ودكتاتورية من شرق آسيا إلى غرب أميركا اللاتينية، لأنها كانت الحارس الأمين لصالحها المنقذ المخلص لسياساتها.
وإذا كانت بعض النظم الذكية سارعت حديثا بالاستجابة للمطالب الأميركية وأجرت اصلاحات تجميلية، فإن هذا كله لن يوقف دوران العجلة الأميركية المندفعة، كما أنه لن يقنع الشعوب الراغبة في اصلاحات جذرية وحقيقية، لأنها هي التي تتحمل كل أعباء اتفاق - واختلاف - النظم مع الاستراتيجيات الأميركية، كان ذلك في الماضي، وهو كذلك في الحاضر.
أما المستقبل الذي لا يزال غامضا، فأمره عند علام الغيوب، لكن بعض ملامحه تهب علينا واضحة، وخصوصا عبر الهجمة الأميركية التي تقود الأرمادا المسلحة من ناحية، وتدعو إلى فرض الاصلاح الديمقراطي من ناحية أخرى، ومن لا يقبل بهذه يتلقى تلك!
ولن نستغرب كثيرا، أن تعقب العراق، هذه الدولة أو تلك غزوا وقهرا، مثلما لن نندهش إذا ما فتشت أميركا عن حلفاء جدد لقيادة الدول العربية والإسلامية، يقبلون باستراتيجيتها بشكل مطلق وغير متردد، ينفذون سياستها بأكفأ مما فعل أسلافهم، ويتصالحون مع «إسرائيل» بحماس وعلانية، ويحقرون أو يقهرون التطلعات الشعبية لاصلاحات ديمقراطية حقيقية، بطرق أسلس مما فعله السابقون، وربما أقس وأمر!
لن نذهب كذلك، إذا ما تمكنت أميركا من الاحتواء السريع والحماس، للتيارات والقوى السياسية والدينية الصاعدة الآن، من الليبراليين الجدد إلى الإسلاميين الجدد، في هذه الدولة أو تلك، ليكونوا «الفزاعة» أو «البديل الديمقراطي» للنظم الحالية الواقعة تحت الهجوم والضغط الأميركي المكثف، بعد أن فقدت صلاحيتها، وهو أمر يبدو أن أميركا تراهن عليه الآن بقوة، أملا في أن تستقطب هذه القوى الجديدة «والاصلاحية» الرأي العام فتحتوي غضبه وتمرده، وتخفف كراهيته للسياسات الأميركية المنحازة وللتطرف العدواني الإسرائيلي، وتستأنس اندفاعه الراديكالي المولد للعنف وربما الارهاب!
ومؤدى ذلك كله أننا وضعنا أنفسنا - قبل وبعد أن وضعتنا أميركا - في حزمة عصبية وعصية من المآزق والأزمات المتداخلة، فقد تجاهلنا منذ البدء ضرورات الاصلاح وتخوفنا من الديمقراطية وتباطأنا في محاربة الفقر والفساد، حتى فاجأنا التطرف والارهاب واليأس والاحباط، ويضرب في كل مكان من بالي شرقا إلى نيويورك غربا، ونحن في المنتصف أسرى المآزق والأزمات.
ما العمل إذن...
يقينا لم يعد يكفي البكاء على أطلال واقعنا فكل شيء واضح وضوح الشمس، ويقينا لم يعد يكفي أن نلوم حكوماتنا فقط، ويقينا لم يعد يكفي أن نرفض ما تفرضه أميركا، فمنذ متى كان مجرد الرفض حلا لأي شيء!
اليقين الوحيد المستقر في أعماقي على الأقل، هو أن نسارع نحن بمبادرات جديدة وجريئة تطرح قضية الاصلاح الديمقراطي من داخلنا وبأيدينا وعقولنا، مستفيدين من هذا المناخ العاصف والجو المضطرب، فمن بين الأنواء ينبلج عادة شعاع النور بارقا كالأمل الموعود!.
لكن الأمل يحتاج أولا وأخيرا إلى العمل، وهذا بدوره يحتاج إلى تكاتف عقول الأمة وضمائرها المستنيرة، للجلوس والتفاكر بحثا عن طريق للاصلاح الحقيقي انقاذا لسفينة الوطن من العواصف والأجواء الصاخبة، والأمر على ما نظن لا يحتاج إلى إعادة اكتشاف انشطار الذرة
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 91 - الخميس 05 ديسمبر 2002م الموافق 30 رمضان 1423هـ