في أقّل من 50 سنة، استطاعت سنغافورة بناء نظام تعليمي يُعتبر أحد أرقى أنظمة التعليم في العالم، مكّن طلبتها من تحقيق المراكز الأولى في مختلف الامتحانات العالمية، ممّا أجبرَ الولايات المتحدّة الأميركية لدراسة أسرار تفوّق الطلبة السنغافوريين في الرياضيات، للاستفادة من التجربة السنغافورية في تصميم المناهج وتطوير طرق التدريس. فما سرّ هذا؟
منذ اللحظة الأولى لتولّيه الحكم (سنة 1959)، أدرك رئيس وزراء سنغافورة وباني نهضتها الراحل لي كوان يو، أنّه لن يستطيع تغيير واقع بلاده الذي يعاني من الفقر والبطالة وقلة الموارد الطبيعية، إلاّ من خلال نظام تعليمي متكامل يحترم التعددية الدينية والعرقية ويراعي الجميع بشكلٍ متساوٍ.
بانفصالها عن ماليزيا (سنة 1965)، ربطت سنغافورة نظامها التعليمي بالتنمية الاقتصادية، وعملت على تطويره بشكل مستمر، حيث مرَّ النظام التعليمي بعدّة مراحل مختلفة، بدأت بمرحلة «البقاء على قيد الحياة» والتي كان هدفها التعليم للجميع. في نهاية السبعينيات، انطلقت المرحلة الثانية بهدف مساعدة الطلبة على التقدّم وإكمال التعليم في المدارس.
مع حلول التسعينيات، بدأت الحكومة السنغافورية المرحلة الثالثة لإصلاح نظام التعليم تحت شعار «النموذج المركّز على القدرة»، حيث ربطت تعليمها بالمعرفة التي يقوم عليها الاقتصاد، وبدأت تنمية مهارات طلبتها في الصناعات المختلفة. سنة 1997، تمَّ إطلاق مبادرة «مدارس التفكير، تعلّم الأمة»، وهي مبادرة قائمة على أربعة مبادئ: إعادة النظر في أجور المعلّمين، إعطاء قادة المدارس مزيداً من الاستقلالية، إلغاء التفتيش واستحداث التميّز المدرسي، تقسيم المدارس إلى مجموعات يشرف عليها مشرفون متخصّصون. هذا التقسيم، ساعد المعلّمين على تبادل الخبرات والإنجازات، ووضع نظام المصادر المشتركة I SHARE الذي يحوي 70 ألف درس يتشارك فيه المعلّمون، كما أصبحت ثقافة المشاركة جزءاً لا يتجزأ من طبيعة المدارس.
في العام 2005، جرى إطلاق مبادرة جديدة هي مبادرة: «تعليم أقّل، تعلّم أكثر»، ركّزت على طرائق التدريس وتقليل حجم المحتوى، لإفساح المجال إلى التفكير وتنمية مهاراته لدى الطلبة. في 2012، بدأت مرحلة «التركيز على الطلبة والقيم»، بعدما أدركت الحكومة أنّ هذا الزمن هو عصر العولمة، وأنّ متطلبات هذا العصر هو غرس قيم، تربط الطلبة بوطنها، وفي الوقت نفسه تمكّنهم من الارتباط مع العالم على ما به من اختلافات.
لكي تضمن الحكومة السنغافورية استمرارية فاعلية النظام التعليمي، عملت على تطوير مناهجها وطرق تدريسها، كلّ خمس سنوات، حيث تقوم بهذا التطوير فِرَقٌ من المعلّمين ومدراء المدارس السابقين، يشاركهم في ذلك مجموعة من الشركاء كأساتذة جامعيين ورجال الأعمال والصناعة.
يعمل نظام التعليم في سنغافورة على بناء شخصية الطلبة، ومراعاة الفروق الفردية بينهم، وتحقيق ميولهم ورغباتهم، لذا، فقد بُنِيَ السلّمُ التعليمي على مراحل، حيث تبدأ الدراسة الابتدائية من سنّ السابعة إلى الثانية عشرة لمدّة ست سنوات، يخوض الطالب بعدها الاختبار الوطني، والذي من خلاله يستطيع اختيار الفرع الذي يناسبه في المرحلة الثانوية، وفقاً لدرجاته وميوله وقدراته. تضمّ المرحلة الثانوية أربعة فروع هي: «المدارس المهنية» (2 - 4 سنوات)، «الثانوية إكسبريس» (4 سنوات)، «الثانوية الأكاديمية» (4 - 5 سنوات)، «الثانوية التقنية» (4 سنوات). وبعد المرحلة الثانوية يستطيع الطالب الالتحاق بالعمل مباشرة أو إكمال دراساته في مرحلة ما قبل الجامعة (2 - 3 سنوات) والتي يستطيع الطالب فيها الالتحاق بالكلية للحصول على شهادة المستوى المتقدّم أو الالتحاق بأحد المعاهد التقنية أو الفنيّة. المرحلة الأخيرة هي مرحلة التعليم الجامعي (3 - 4 سنوات).
إضافة لهذا النظام الأساسي، وضعت الحكومة السنغافورية أنظمة أخرى تلبّي احتياجات الطلبة، منها «مدارس البرنامج المتكامل» (4 - 6 سنوات)، ومن خلاله يستطيع الطالب الالتحاق بالتعليم الجامعي مباشرة، كما توجد المدارس المستقلة المخصّصة لأصحاب المواهب كالفنّ والرياضة وغيرهما، وليكون النظام التعليمي شاملاً للجميع، أنشأت الحكومة مدارس تستوعب الطلبة متكرري الرسوب في اختبارات الابتدائية، تعلّمهم مهارات أخرى كالطهي والتصفيف وغيرهما، تساعدهم في الحصول على العمل بدلاً من الضياع.
تُعدُّ التجربة السنغافورية في التعليم من التجارب الرائدة، التي تستحقّ الوقوف عليها، وفي اعتقادي، أنّ البحرين في أمسّ الحاجة للاستفادة من هذه التجربة، وبدء العمل الجادّ والفوري لتطوير النظام التعليمي فيها، من خلال بناء خطط استراتيجية فاعلة تقربّها من تحقيق رؤيتها 2030.
إقرأ أيضا لـ "عبدالجليل الشويخ"العدد 5367 - الأربعاء 17 مايو 2017م الموافق 21 شعبان 1438هـ
التعليم في البحرين يحتاج لتطوير فعلي كي نواكب الدول المتقدمة
تجربة متميزة بالفعل ليت الاستفادة منها من اجل تطوير واقعنا التعليمي في البحرين . شكرا لك دكتورنا القدير ، عساك على القوة
قرآة موفقة دكتور وابداع في السرد
طبعا هذا يحتاج الى ارادة حقيقية تنظر الى مصلحة الوطن يعيدا الدوافع الاخرى
شكرا لك يا ابن قريتي دكتور عبد الجليل على هذا المقال ، متمنيا لك مزيدا من التوفيق والنجاح .
.
مقال جميل للدكتور عبد الجليل. فعلا سنغافورة مثل يحتذى به في مجال التربية والتعليم.