لم يفاجئني الصديق الشيخ إسماعيل الكلداري قبل أيام بإهدائه إياي ديوان الحاج محمد علي التاجر (ت 1387هـ/ 1967م)، فقد كنتُ أعرف أنه قد تجمّعت لديه مجموعة من أوراق التاجر الخاصة، بعد أن ظفرت مكتبة الوجيه جلال العالي بالجزء المتبقي من مكتبة التاجر، وكان من ضمن هذه الأوراق: النسخة الأصلية الأمّ لكتاب (عقود اللآل في تاريخ جزائر أوال) الذي صدر قبل أيام بتحقيقٍ لكاتب السطور استناداً عليها، إضافة إلى دفاتر خاصة كان التاجر يكتب فيها بعض الفوائد ويقيّد بعض الشوارد والأبيات الشعرية، كما كان من ضمن هذه الأوراق مجموعة قيمة من التراجم التي لم تنشر من قبل، ومن ضمنها ترجمة التاجر لنفسه، والتي خلا منها كتاب (منتظم الدّرين) الذي صدر قبل سنوات في ثلاثة أجزاء عن دار طيبة لإحياء التراث.
يأتي هذا الديوان الشعري للتاجر، ليضعنا أمام تراث أدبي وتاريخي للتاجر تكاد دائرته تكتمل من خلال الطباعة والنشر، بحيث بات القارئ اليوم أمام تراث فكري يسمح بتكوين صورة شاملة عن جهود التاجر واهتماماته وملامح عطائه الفكري والأدبي، وهو أمر لم يكن متاحاً قبل سنوات قليلة، عندما كان جُلّ هذا التراث مخطوطاً وبعهدة أشخاص كانوا حريصين عليها كل الحرص، وكانوا يضنّون بها على من يرغب الوصول لها إلا بشقّ الأنفس.
والجهد الذي نهض به الكلداري في جمع وتحقيق شعر التاجر، هو في الواقع حصيلة لسنوات طويلة من البحث والشغف بجمع المخطوطات والتعامل معها ومعايشتها، بل والصبر على المعاناة التي يتكبّدها السالك لهذا الطريق.
وأرى من المفيد إعطاء نبذة مختصرة عن الشيخ إسماعيل لأهمية الذي قام به في إحياء جزء كبير من تراث البحرين العلمي والأدبي.
ولد الكلداري في المحرق سنة 1977م، والتحق منذ الصغر بالكتاتيب فتعلم فيها قراءة القرآن وبعض الكتب الدينية والأدبية باللغة الفارسية، ثم التحق بالتعليم النظامي.
في بداية التسعينات التحق بحوزة النعيم للدراسات الإسلامية، ودرس على يد بعض طلبة المحرق حتى أنهى ما يُسمّى في عرف الحوزة العلمية بكتب المقدمات، وكان مع ذلك طالباً يدرس دراسة أكاديمية وفي سنة 1998 م تخرج من جامعة البحرين من كلية الهندسة.
وفي سنة 1999م سافر لدراسة العلوم الدينية بحوزة قم المقدسة والتحق بالمدرسة الحجازية، فأنهى فيها مرحلة السطوح والسطوح العليا، ثم حضر البحث الخارج لدى عدد من الأعلام المبرزين كالسيد الزنجاني والسيد أحمد المددي والشيخ علي المروجي القزويني.
أبدى الكلداري اهتماماً مبكراً بالمخطوطات والتراث، فبدأ بجهود ذاتية بجمع المخطوطات وتصويرها من المكتبات الخاصة، وبعض دور العبادة والمآتم حتى تكوّنت لديه مع مرور السنين مجموعة ضخمة من هذه المصورات، وهو يُعدّ اليوم دون مبالغة، أحد أكثر من لديهم خبرة ودراية وفهم شامل للمخطوطات البحرينية، وله على المشتغلين في هذا الحقل أياد بيض وأفضال جسيمة، لا يضنّ بمعلومة ولا يبخل بمخطوط يعرف أن أحدهم يحتاجه، كريم في المعلومة، سمحٌ ودود في التعامل، وهي صفات قلّما تجد من يتحلّى بها في ميدان التراث المخطوط.
أخذ الكلداري في السنوات الأخيرة ينشر بعض المقالات والأبحاث التراثية في بعض المجلات، وبالإضافة إلى صدور ديوان التاجر بتحقيقه، من المؤمّل أن يصدر قريباً (رسالة في تراجم علماء البحرين) لأحد علماء جبل عامل في القرن الثاني عشر الهجري.
تضمّن الديوان الجديد ترجمة للتاجر بقلمه، وثلاث قصائد في بناء مأتم المديفع، وقصيدة مدح للشيخ إبراهيم بن الشيخ ناصر آل مبارك، ومدح للشيخ ميرزا حسين البريكي القطيفي، ومداعبة ومعاتبة إبراهيم بن عبدالله الزبيري، وثلاثة تقاريض لكتاب (الأزهار الأرجية في الآثار الفرجية) للشيخ فرج العمران، وتقريض لكتاب الرحلة النجفية للشيخ فرج أيضاً، وتقريض الأربع مسائل للشيخ محمد علي المدني، ومجموعة تخميسات أكثرها في الغزل.
ولعلّ أرقّ وألطف ما في الديوان هي هذه التخميسات الغزلية، و»التخميس» هو أن يأخذ الشاعر بيتاً لسواه، فيجعل صدره بعد 3 أشطر ملائمة له في الوزن والقافية (أي يجعله عجُز بيت ثانٍ)، ثم يأتي بعجز ذلك البيت بعد البيتين فيحصل على 5 أشطر.
ونختار من الديوان تخميس التاجر بيت لديك الجن، يقول:
إني سقيم وما سقمي سوى وله
في عشق ظبي غرير ما له شبه
ووعد مالك رقّي لا وفاء له
جسّ الطبيب يدي جهلا فقلتُ لهُ
إنَّ المحبّةَ في قلبي فخلِّ يَدي.
وقال التاجر مُخمساً أبياتاً لبعض الأدباء:
حوريّة أسرت قلبي فمال لها
والعاشقون قضوا في حبها ولها
كم ناسك قد غوت عن ورده فلها
مرّت بحارسِ بستانٍ فقالَ لها
سرقتِ رمّانتي نهديك من شجري
إن هذا الديوان الشعري للتاجر، هو باكورة إصدارات مكتبة جلال العالي الخاصة، والمكتبة، كما أعرف تسعى لنشر التراث الشعري والأدبي البحريني خدمةً لتراث البحرين العلمي والأدبي ووضعه تحت يد ونظر الباحثين والدارسين والمهتمين، والأمل معقود في أن تتوسع هذه الظاهرة لتأخذ طابعاً أكثر تنظيماً وحرفية وشمولا، فمجال التراث مجال حيوي وواسع وواعد ومُهم، وأهميته في أنه يمثل جزءا من هوية الأمة ومظهرا من مظاهر ميراثها الإنساني والأدبي والفني.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5365 - الإثنين 15 مايو 2017م الموافق 19 شعبان 1438هـ
الكلداري. ...ورث مجموعه
ضخمة من الكتب التاريخيه والدينيه من جده الملا اسماعيل.....
يعطيك العافية عزيزي وسام و كل التحية للشيخنا الجليل إسماعيل الكلداري على جهودة المثمرة في حفظ التراث
ألف شكر لكم