يتجاذب الإسلام السياسي اليوم في الغالب ثلاثة أشكال من التطبيقات السياسية، الممارسة الإيرانية، والتركية، والعربية، ولأن الدعوة في الإطار العربي لم تتطور بما يخاطب العقل ويساير الزمن، أفرزت أفكار التطرف التي هي عند فولتير (مرض الكاثوليكية) وبسبب فقدان المنهج الحديث والوضوح في الوسائل والأهداف، أخذت الخلافات والانشقاقات والصراعات تستنزف جُلَّ طاقة الأمة، وتفرش طريقا لا يمكن تجاهله من الصراع الذي لا توجد في أدبيات أو ممارسات الحركة أية آلية لحل المختلف عليه حلا حضاريا وسلميا، بل تتعدد الاجتهادات إلى حد التناقض الذي يقود إلى دعوات التكفير والمفاصلة والخروج عن الملة وإباحة المحرمات، أي تحويل الاختلاف في المنهج إلى خلاف في العقيدة.
ويعتقد كثير من المتابعين، أن التفسير السياسي للإسلام الممارس في الشرق الأوسط اليوم نبع تاريخيا من عباءة الإخوان المسلمين، المصريين بالذات والعرب بعد ذلك، فالمصادر الموثقة تقول لنا إن الحركة الإيرانية السياسية الدينية وهي في مهدها وجذورها الأولى في مدن المراقد المقدسة في العراق اتخذت من تجربة الإخوان المسلمين في مصر قدوة لها في جمع الديني بالسياسي. ووثق هذا الأمر أمير طاهري في كتابه عن «أصول الثورة الإيرانية». أما الحركة الإسلامية السياسية التركية، فقد كان لها منبت صوفي كامن، حتى تأثرت نتيجة التطورات في الشرق الأوسط، وخصوصا الثورة الإيرانية، بحركة الاحياء الديني، وشهدت مطلع السبعينات أول ظهور علني للعمل الإسلامي السياسي بقيادة نجم الدين أربكان خريج الأزهر ومؤسس حزب النظام الوطني ثم حزب السلام الوطني والذي شارك في ثلاث حكومات إحداها برئاسة بولنت أجاويد اليساري ومرتين مع سليمان ديميريل اليميني، كما يخبرنا محمد نورالدين في كتابه عن الحركة الإسلامية التركية المسمى «حجاب وحراب». وبرز في حزب الفضيلة الذي أنشئ بعد حظر حزب الرفاه تياران: أحدهما تقليدي بقيادة رجائي قوطان، والآخر تجديدي بقيادة رجب طيب أردوغان وعبدالله غول، الذي وصل إلى الحكم في تركيا حديثا تحت اسم حزبي جديد هو العدالة والتنمية، ويصفه أصحابه أنه حزب حديث وعلماني، يقول رئيسه: «إنني لست أصوليا متطرفا وإنما أنا مسلم مثل بقية المسلمين في تركيا ومؤمن بتراث الشعب التركي وهويته التاريخية، ولذلك فإننا نحترم طراز حياة كل شخص في بلادنا وأسلوب معيشته» ليس أكثر من ذلك وضوحا في التزاوج مع الحديث.
في التجربتين الإيرانية والتركية انقسم الإسلام إلى (محافظين) و(مجددين)، وتلونت التجربة بالبيئة المحيطة، في تركيا أصبح الأمر واضحا، فعلى رغم وجود تيارات محافظة وربما تقليدية وأصولية، فإن التيار القابض على السلطة اليوم والمقبول من الجمهور هو حزب العدالة والتنمية وهو (إسلامي ديمقراطي) إن صح التعبير، ويستظل بمظلة الإسلام، ويمارس العمل السياسي البرغماتي، فهو يسعى إلى إدخال تركيا إلى السوق الأوروبية المشتركة، وهذه لها شروط واضحة في احترام الحريات منها حرية النشر وحقوق الإنسان والتعددية السياسية وسيادة قوى السوق، وأيضا حرية الاعتقاد، ويعزز أيضا علاقات تركيا التاريخية بإسرائيل، كون الأخيرة مدخلا من مداخل الغرب السالكة، ويسوي مشكلة قبرص بما يفرضه الجوار الأوروبي، إلى آخر الخطوات التي تجعل من الحزب، حزبا حديثا ومسايرا للواقع الموضوعي الدولي غير متناقض معه.
في إيران يحتدم النقاش الذي تطور في السنوات الماضية إلى مرحلة متقدمة، عن دور الدين في الدولة، ولعل قضية هاشم آغاجاري المحتدمة اليوم بين الفرقاء، هي خير دليل على هذا الصراع بين المحافظين وبين المجددين، وكلا الطرفين يتسلح بمقولات رجال الدين، بل إن رجال دين معممين تجدهم في طرفي المعادلة السائدة في إيران اليوم، مساهمين بشكل نشط في الحوار الدائر حول مستقبل الحكم، هل يظل كما هو تحت سيطرة رجال دين أصبح لهم نفوذ ومصالح في الوضع القائم، أم يقدم التفسير الآخر الذي هو قريب إلى المؤسسات الشعبية التي تصل إلى السلطة من خلال صناديق الانتخاب وتقرر هي، لا غيرها من الوسائل، كيف تُسير البلاد وتحقق مصالح العباد.
في الوضع العربي لا يوجد حكم، غير ما هو في السودان، يقول بمقولات (الإسلام السياسي) كما تبلور في الربع الأخير من القرن العشرين، والحركة الإسلامية السياسية في السودان ليست بعيدة عن عباءة الإخوان المسلمين، وإن تمثلت بالتراث السوداني، وأصابها الانشقاق والفرقة، بسبب ما يعانيه السودان من مشكلات خاصة به، وهي لاتزال في مرحلة التجربة والخطأ.
جوهر الأمر أن الحركة السياسية الإسلامية العربية في عصرنا والتي نبعت تاريخيا من خلال الإخوان المسلمين تواجه اليوم أسئلة كبرى، لعل حديث وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبدالعزيز قد فتح باب الحوار حولها ووجب الاجتهاد، إلا أن الاجتهاد ليس مجرد نشاط عقلي مغلق داخل قضاء النص الديني، بل هو بحث عن معنى ديني جديد لملابسات واقع جديد، أي بقدر ما يسعى المجتهد إلى اكتشاف أحكام الواقع ن قلب الحقيقة الدينية، فإنه بالرتبة ذاتها يسعى إلى اكتشاف الحقيقة الدينية بآليات ذلك الواقع الذي يعيش هواجسه وأمانيه. فالاجتهاد بدأ في كل من تركيا وإيران والنجاحات فيه نسبية، ولكنه تشكل مواكبا لظروف البلدين وتجربتهما التاريخية.
أما الحركة الأم في الإسلام السياسي العربي فإنها مازالت حبيسة مفاهيم غارقة في الماضي، ربما بسبب ذاتي وربما بسبب موضوعي، إلا أن الأمر لا يخلو من ملاحظة القصور الفكري العميق في مواكبة المتغيرات المتسارعة.
فحركة الإسلام السياسي العربية اليوم التي يقف على رأسها «الإخوان المسلمين» تعاني من مجموعة من المشكلات التاريخية، لا ينفع فيها بعض التصريحات التي ظهرت ردا على تصريح الأمير نايف هنا وهناك، وهي تصريحات أقرب ما تكون إلى العودة إلى الشعارات وبعيدة عن التفسير والإقناع المنطقي، فالحركة الأم وهي تستقبل سادس المرشدين وتتعاطى مع القرن الواحد والعشرين، تجد نفسها تواجه مشكلات ذات مستويات كثيرة، منها هل هي حركة (فوق وطنية) بمعنى أنها عابرة للأوطان، أي أنها تتجاوز المكان الجغرافي، سواء أكان مصر أم الأردن أم سورية أم الكويت على سبيل المثال، أم هي حركة دولية؟.
في وفاة المرشد الخامس وتنصيب السادس نجد أن المتحدث باسم الحركة لا يستطيع أن يجيب عن تساؤل تلفزيوني متعلق بهذا الأمر، عن دور «التنظيم الدولي» في اختيار المرشد الجديد؟ رد الناطق بقوله إن هذا السؤال هو استجواب بوليسي وليس سؤالا صحافيا؟ هنا يبرز موضوع السرية، التي هي شيمة الحركات المتخفية غير الظاهرة، في مقابل العلنية الواضحة المتوقعة من الأحزاب الحديثة، وماذا إذا تناقضت أفكار الحركة العامة وأهدافها مع مصالح منتسبيها في وطن بعينه، كما حدث في الكويت إبان الاحتلال العراقي، وهل يفيد في مثل هذا الحالات إطلاق الفتاوى المبيحة للتصرف الإقليمي بعيدا وربما متناقضا مع الأهداف المقررة للحركة، كالقول بفقه الذرائع وما حول ذلك من ضبابية؟
من مظاهر تلك المراوحة في المكان ما نجده على موقع الإخوان المسلمين على الإنترنت إذ يبدأ بالعبارة الآتية:
«نتقدم بدعوتنا نحن الإخوان المسلمون... هادئة... لكنها أقوى من الزوابع العاصفة... متواضعة... لكنها أعز من الشمم الرواسي... محدودة... لكنها أوسع من حدود هذه الأقطار الأرضية جميعا...».
بمثل هذه العبارات الحماسية والضبابية وغير ذات مدلول، التي تتصدر الموقع، فإنها لا تقدم شيئا جديدا أو تغري المتابع لفهم المعروض، لأنه يخلو من فكر يتطلبه المواطن اليوم، فكر يقدم تصورات لحلول المشكلات الحديثة التي تواجه المواطن، فالأدبيات المتاحة من حركة الإخوان في غالبيتها تعرف ما لا تريده الجماعة، إلا أن تعريف ما تريده لا يخرج عن العبارات العامة والجمل السجعية.
فأين حقوق الإنسان وأين البرنامج السياسي المستقبلي، وأي مفهوم للديمقراطية الحديثة، وغيرها مما يناقش اليوم.
في الوقت الذي يحتدم فيه النقاش في المؤسسات الدينية السياسية الحاكمة في كل من تركيا وإيران، نجد أن حركة الإخوان تحارب الماضي بقيادة هرمة من جيل الماضي نفسه، وتفرض على جيلها الجديد السمع والطاعة العمياء، وتغوص في نقاش حول نوع الملابس وطول اللحى، وينفر من كل ذلك الجيل الجديد باتجاهين، الأول أن ينعزل عن العمل والعالم مما يراه، والآخر ينفر إلى الشدة والغلظة والتعصب، فيقع فريسة سهلة لجماعات الإرهاب
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 88 - الإثنين 02 ديسمبر 2002م الموافق 27 رمضان 1423هـ