لم تتوقف التعليقات السياسية الاوروبية على فوز حزب «العدالة والتنمية» الاسلامي في الانتخابات التركية الاخيرة. فمنذ نجاح الحزب في السيطرة على غالبية المقاعد وتكليف عبدلله غول بتشكيل الوزارة حتى تبارى السياسيون الاوروبيون في قول قولهم بين مرحب بتحفظ وبين قابل على مضض.
الديمقراطيون الحقيقيون قالوا ان النتيجة هي خيار الشعب التركي ولا نستطيع التدخل، واعتبروا ان الديمقراطية فيها الكثير من العيوب ومن عيوبها انها يجب ان تقر بأي نتيجة حتى لو كانت غير مريحة للفئات التي لا ترى في الاسلام سوى التهديد الوحيد لـ «الحضارة الاوروبية».
الديمقراطيون العلمانيون وجدوا في النتيجة خطوة اولى تهدد علمانية الدولة التركية وتثير اشكالات حقيقية للدستور الامر الذي يستوجب دق الطبول لاستنفار القوى وتكتيلها لمواجهة الخطر.
الديمقراطيون الليبراليون استنتجوا من نهاية المعركة الانتخابية ان تركيا مقبلة على تحولات تبدأ بالبرلمان وتنتهي في الشارع وعودة الدولة للتدخل في السوق وتعديل السياسات السابقة وتدويرها باتجاهات مغايرة للتوجهات الاقتصادية التي سلكتها المؤسسات المالية منذ فترة ليست قصيرة.
الديمقراطيون المسيحيون اعتبروا فوز الاتجاه الاسلامي مناسبة لترسيم الحدود الحضارية - الدينية بين غرب اوروبا وشرقها. فالمسألة غير قابلة للنقاش والاختلاف على الديمقراطية هي ظاهر المشكلة أما جوهرها فهو اختلاف على نمط الحياة والنظرة إلى الكون.
الديمقراطيون القوميون اعلنوا ان تركيا في حلتها الجديدة تنعش ذاكرة اوروبا وتذكّر بالخطر التاريخي على القارة. وفوز الاسلاميين في الانتخابات البرلمانية يعني سياسيا منع تركيا من دخول الاتحاد الاوروبي. فالاتحاد كما قال الرئيس الفرنسي (الليبرالي العلماني الديمقراطي) السابق فاليري جيسكار ديستان يتميز بتناسق حضاري مسيحي وهويته لا تتجانس مع هوية تركيا المسلمة.
كل هذه الالوان من التصريحات الفكرية صدرت مباشرة عن أطياف سياسية حاكمة أو معارضة في مختلف الدول الاوروبية ولكنها في النهاية متحفظة على النتيجة أو متخوفة من تداعياتها أو مستفيدة منها للضغط على قيادة الاتحاد لوقف الاجراءات التي تتخذها بشأن طلب تركيا الدخول إلى الرابطة الاوروبية. فالمجموعات السياسية على انواعها وجدت في هوية تركيا مشكلة تاريخية من الصعب التأقلم معها حتى لو اتخذت الدولة سلسلة قرارات كسرت توازن المجتمع واعادت تشكيله وفق الشروط القاسية التي وضعتها المجموعة الاوروبية لمنع 60 مليون مسلم من الدخول إلى حوض الحضارات المسيحية.
الامر نفسه تكرر مع المغرب العربي. فمنذ سنوات تقرع المملكة المغربية ابواب اوروبا ولا من مستجيب. وكل فترة تخترع المجموعة الاوروبية ذريعة سياسية (حقوق الانسان) أو اقتصادية (الخصخصة والسوق) أو اجتماعية (المرأة والحجاب) حتى تجد التبريرات الكافية لقول كلمة: لا. واللا الاوروبية ضد المغرب اقوى بكثير من اللا ضد تركيا. الا ان الرفضين ليس سببهما الاقتصاد والسياسة والاجتماع بل الدين والتاريخ والهوية. فالمغرب هو بوابة اوروبا الغربية الجنوبية وتاريخيا دخل منها المسلمون إلى اسبانيا (الاندلس) ووصلت طلائع قواتهم إلى بواتييه في فرنسا. وتركيا هي بوابة اوروبا الشرقية الجنوبية وتاريخيا دخل منها المسلمون إلى الشطر الشرقي من اوروبا ووصلت قواتهم إلى قبالة البندقية في البوسنة وكرواتيا وحاصرت فيينا وكادت ان تسقطها لولا تحالف مجموع الممالك والمدن الاوروبية آنذاك.
لاشك في ان الذاكرة التاريخية تلعب دورها في انعاش الموقف الاوروبي وتضغط على المجموعة كلها لتغذية عناصر الرفض بذرائع مختلفة. فمسألة الهوية لا تزال تشكل نقطة توازن ثقافية - نفسية للشعوب حتى تلك التي تقول دولها انها تجاوزتها منذ عصور. فالعولمة في المعنى التاريخي الاوروبي هي «اوربة» وليست الغاء الهوية الاوروبية. وهي عولمة مضادة من جانب آخر «الامركة» التي هي ايضا تدفع العالم نحو التخلي عن ذاكرته وهوياته.
قال السياسيون الاوروبيون قولهم في الحدث التركي وتراوحت الكلمات من اعلان الخطر إلى القبول على مضض. بقي على السياسيين العرب ان يقولوا قولهم وان يأخذوا العبرة ولو من الاناضول
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 88 - الإثنين 02 ديسمبر 2002م الموافق 27 رمضان 1423هـ