تستطيع أن ترى مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة وهم يجوبون حديقة مكاتبهم، ليس للتنزه و«شم» هواء نقي في بغداد، ولكن لمناقشة عملياتهم بعيدا عن وسائل التجسس المشتبه فيها والتي يعتقدون أن العراقيين زرعوها في مكاتبهم.
فليس متوقعا أن يكنس الخبراء الدوليون غرفهم حتى تتم المناقشات الداخلية سرا ومن خلال المذكرات والخرائط. وكانت أول عملية «مفاجئة» للبعثة الجديدة تم تخطيطها بصمت حيث يشيرون الى المواقع مع بعضهم بعضا على خريطة.
ووفقا لما ذكره طوني بلير فقد أمر صدام حسين مئة من مسئوليه باخفاء الوثائق، وحتى أجزاء من أسلحة الدمار الشامل في بيوتهم!
وبينما يراقب صدام حسين ويستمع لكل شيء تقوم به الأمم المتحدة فإنه لا توجد فرصة الى مقابلته وإجراء حوار معه. إلا أن المفتشين لا يجدون مشقة في رؤيته، فصوره الست في ردهات فندق الرشيد زيدت حتى وصلت الى 25 صورة بمناسبة قدومهم. وقد مروا من قبل على 21 تمثالا وصورة لصدام في الطريق من مطار صدام الدولي.
كما شاهدوا ايضا 12 صورة أخرى للرئيس عندما توجهوا الى مكاتبهم في فندق القناة وعبر شارع صدام بالقرب من مدرسة صدام للفنون. فهو اذن يعتبر هنا كلي الوجود. القبضات الحديدية الرافعة للسيفين المتقاطعين في «قنطرة النصر» في بغداد، واذا ما اكتمل مسجد «أم المعارك» سيكون أكبر مسجد في العالم بعد الحرمين الشريفين، وهو تمجيد لصدام العلماني سابقا ومؤسس النهضة الاسلامية حديثا.
ولا يستطيع الناس الفكاك من الرجل حتى في حياتهم اليومية، حيث تدير الحكومة الصحف اليومية، بينما تحمل اللافتات في الشوارع نماذج من حكمتة - مثلا - «عندما لا تستطيع التواجد في ميدان العمل أو المعركة فلا تدع ظلك يغيب عن الموقع أو لا يسمع صوتك». كما أنه مستثمر عملة أجنبية، حيث لا تكتمل رحلة رجال الأعمال، الدبلوماسيين أو الصحافيين الأجانب من دون شراء ساعات صدام، وقمصانه قصيرة الأكمام والأحزمة.
ولكن يواجه صدام العظيم التحدي العصيب الذي يستهدف فيه الاميركيون حياته وهم الذين يعتزمون فرض تغيير النظام بالقوة.
فبالنسبة لجورج بوش تعتبر المسألة شخصية. فقد اشتكى قائلا «لقد حاول - أي صدام - قتل أبي» وفي العام 1993 تآمر جهاز المخابرات العراقية لتنفيذ اغتيال بوش الأب اثناء زيارته للكويت.
وفي عهد الرئيس بيل كلينتون، تم اطلاق 23 صاروخ كروز على وزارة الدفاع في بغداد، حيث شط بعضها ليصيب المنازل مما ادى الى مقتل مدنيين من بينهم الفنانة الأكثر شهرة في الدولة ليلى عطار.
وكانت هناك محاولات كثيرة من جانب الأميركيين خلال أحد عشر عاما بكلفة تقدر بنحو 120 مليون دولار لتشجيع التمرد وعدم الاستقرار كلها فشلت وادعى محقق ألماني من هامبورغ يسمى ديتر بوهمان، أن دراسته التي تشمل 450 صورة توضح أن هناك على الأقل 4 شخصيات لصدام. وقال ضابط استخبارات عراقي منشق أن واجبه كان تعيين وتدريب أشباه صدام بمساعدة جراحة بلاستيكية وأساتذة مسرح. ولكن لم يكن هناك ظهور عام لصدام الحقيقي منذ سنوات، اذا استبعدنا الظهور التلفزيوني الوجيز، حيث لم يظهر حتى في احتفالات عيد ميلاده الخامس والستين في ابريل /نيسان الماضي، كما لم يظهر بعد انتصاره في الاستفتاء الأخير الذي رفع من اسهمه الانتخابية الى 99,99 في المئة.
أما كيف يضلل صدام أعداءه فيظل سرا حتى الآن.
ولكن هناك بعض النظريات، في مقهى شاه بندر، ادعى عباس أنه كان عضوا سابقا في حرس النخبة الجمهوري وقال: «في العهد الذي عملت فيه لايسير صدام في موكب ضخم كما يفعل وزراؤه وأبناؤه وإنما في سيارة أو سيارتين عاديتين. كما لا ينام في المباني الضخمة التي يقصفها الأميركيون ولكن في بيوت عادية، ويتنقل دائما في أماكن مختلفة».
القليلون لديهم مثل هذه المعلومات ولكنهم لا يتكلمون عنها.
وتستعد مدينة «تكريت» مسقط رأس صدام وقاعدة قوته شمال بغداد - لهجوم أميركي، فمن هذه المنطقة جاء صدام بكبار العسكريين وضباط الأمن والمستشارين المدنيين، وهو المكان الذي يرجو منه الكثير اذا سقطت كل المناطق الاخرى، وقد وعد مسئولو البنتاجون بتسوية تكريت بالأرض.
وفي شوارع بغداد قليلون يتحدثون عن تهديدات الحرب ومصلحة الشعب العراقي، ويتخوف الناس أن يستهدف التدخل الأميركي قوات ارهابية اعدها صدام بوحشية ويقوم بتفقدها.
يقول الصيدلي المتدرب في باريس، ماجد القاسم (39 عاما) انهم يريدون أن يجلبوا لنا فوائد الديمقراطية، ونحن نعلم أنهم يريدون النفط، فلماذا يتذرعون بذرائع اخرى؟ إنهم لا يقصدون شخص صدام».
وقالت الطالبة أميرة نور (20 عاما) «أنا وصديقاتي خائفات اذا نشبت حرب. هذا البلد سيصبح مثل افغانستان. سنفقد الأشياء القليلة التي نمتلكها. أما رأيي بخصوص الرئيس...» في هذه اللحظة لمس أخوها سليم ذراعها، قائلا «كفى. لا تقولي أكثر من ذلك. هناك حدود للكلام».
خدمة الاندبندنت - خاص بـ «الوسط»
العدد 88 - الإثنين 02 ديسمبر 2002م الموافق 27 رمضان 1423هـ