ثمّة نافذة مفتوحة وهواء منعش يذكّره بالأيام الخوالي. وثمّة زجاجة فارغة وصحن به شيء من المرق. وقطّة تأكل ما تبقى من الطعام على المائدة. وثمّة أشياء كثيرة يمكن أن تكون موضوعا لقصة جيدة.
لكنه لا يكاد يتأهّب للكتابة، حتّى تحلّق فوق رأسه أشباح مختلفة الأشكال، تبدّد كلّ فكرة ممتازة!
لا طبيب الأسرة ولا أيّ من الآخرين الذين استشارهم، وجدوا علاجا لحالته! إنهم يكتفون بالقول بأنه فريسة لمرض وراثي! وماذا يعني ذلك؟! هل عليه اليأس حدّ الانتحار كما فعل أبوه؟!
الأدهى، أنّه تناول ما وصفه له الطبيب. ومنذ ذلك الوقت، وهو أسير لتلك الأدوية اللعينة. لقد حطّمت أعصابه فعلاً. حوّلت حياته إلى جحيم لا يطاق. قلق دائم وهواجس لا تنقطع، ويأس حدّ الموت من القدرة على الكتابة.
كان متى جلس إلى الطاولة أو وقف على قدميه عند الآلة الكاتبة، امتلأت الغرفة بالأفكار. تمايلت عن اليمين وعن الشمال، مغرية شهية. مستسلمة للعبقري الذي دخل كلّ بيت، وكلّ منهج دراسي!
لكنّه اليوم عاجز. يرمي بالورقة تلو الأخرى في سلّة المهملات! مرعوب من هذه الحالة التي يشعر معها وكأنّه يتكسر شظايا يوماً بعد آخر؟! ويفقد بسببها كلّ شيء جميل في حياته، بمن فيهم صديقاته، والممثلات منهنّ خاصة!
غاردنير، إنغريد بريغمان، مارلين دنيريش، وأخريات، لم يطقن غرابة أطواره، فتركنه دون كلمة وداع! كشأن زوجاته هاولي، بولين، مارتا. جميعهن هجرنه وحطّمن قلبه، ولا يعلم حتّى متى تصبر ماري على اكتئابه وتوحّشه، وتتحمّل إهاناته وضربه لها؟!
وقام متثاقلاً، وتناول من الرّف طبعة جديدة من قصصه القصيرة. إنّها مجموعة رائعة، تضمّ كلّ ما كتبه من قصص. في وقتنا، رجال ونساء، الفائز لا ينال شيئاً، حياة فرانسيس ماكومبير السعيدة القصيرة، ثلوج كليمانجارو، عاصفة الدنيا. قصص متقنة بالفعل.
ثمّ أمسك بطبعة قديمة من روايته «وداعاً للسلاح». فغمره شعور بالشفقة على نفسه. وتراءت لعينيه آجنس الممرّضة التي شغف بها حبّا. وكانت مصدر هذه الرواية العظيمة.
كان ذلك في إيطاليا، أثناء تطوّعه في الصليب الأحمر. لقد كانت حبّه الأول، وكان ينوي الزواج بها لكنّها رفضته! وفضلت عليه طبيب المستشفى.
كان المال لا شك هو السبب. وإلاّ فآجنس كانت تشعر بمقدار حبّه لها. وأنّ ذلك الإيطالي، كان يعتبرها دمية يباهي بها أصدقاءه ومعارفه.
لقد حطّمت قلبه، مجرّد رسالة اعتذرت فيها وانتهى كلّ شيء بالنسبة لها. أمّا هو فمازال يحبّها، على رغم مرور أكثر من أربعين عاماً!
لكنّها أيضا كانت ملهمته. لقد ألهمته الرواية التي وضعته في الصفّ الأول من روائيي أميركا. ودفعته لكي يكتب أجمل القصص. فأين هي الآن؟! إنه في أشدّ الحاجة إليها.
وابتسم ساخراً، حين تذكّر مقالة كتبها ناقد، يتساءل فيها عن السرّ وراء تعدّد علاقاته الغرامية، على رغم حرصه على الزواج؟!
وعاودته الكآبة، فأحسّ بالضيق الشديد. وودّ صادقاً لو أن أحدهم يرميه بالرصاص. لو أنّ رصاصة تخترق جمجمته وتريحه من هذا العناء، من هذا العجر المقيت.
إن آرنست لم يعش أبداً حالة تشبه ما هو فيه اليوم. إنّها محنة بالفعل! كلّ شيء يتسرّب من بين يديه. أفكار ترفض أن تكتب، وجسم رياضي مشوّه بعد حادث الطائرة، يمنعه من السفر واكتساب خبرات جديدة. والأدوية اللعينة تشعل رأسه غيظاً، يخرج على شكل نار ودخان!
وخطر له وجه أبيه المسكين! كان عنواناً للتعاسة. حياة لم يكن لها أن تمضي على رسلها، دون أن يطلّ الانتحار دواء ناجعاً للآلام! ويبدو أنّ حياته هي الأخرى، تنتظر نهاية مثلها! ومن يعلم؟ ربما تحضر الشجاعة فيطلق الرصاص على نفسه، كما فعل أبوه حين أحسّ أنه في الطريق إلى الجنون.
وإنها لتلوح لعينيه خلاصاً مؤكّداً من آلامه. البندقية التي كانت ولاتزال في حوزته، منذ أن أهداها إياه أبوه وكان لا يجاوز العاشرة. وكم سبق له أن قرّبها من فمه! لكنه لم يتشجّع مرّة واحدة! جبان رعديد، يخشى الموت، وهو الذي تحفل حياته بمواقف الشجاعة واقتحام المخاطر!
وتطلّع إلى البندقية في مكانها المعتاد. هادئة، مستسلمة للنعاس! مضى عليها وقت طويل لم يجرّبها في اصطياد نمر أو جاموس ولا حتى إحدى طيور الزينة؟! فماذا لو جرّبها الآن؟!
أمسك بها بيدين قويتين، ثمّ راح يمسح عليها بمحبة، آخذا في تأمّل فوّهتها. ثم راح يعبّئ الرصاص في البندقية بأصابع مرتعشة.
ثمّ أدخل البندقية في فمه، وإصبعه يعبث بالزناد. وتسارعت نبضات قلبه حتى أوشك أن يقفز من قفصه الصدري، حين وصله صوت طرق على الباب.
رمى البندقية من يده، وارتمى على الأرض شاحب اللون. لقد غاض دمه من وجهه، وانقطع تنفّسه. كانت لحظة لا غير تفصله عن الموت! فماذا حدث؟!
وسمع صوت الطرْق على الباب مجدّداً، فقام ثائر الأعصاب، وتوجّه إلى الباب وهو ينوي تعنيف هذا الفضولي، الذي يزوره في هذا الوقت المبكّر من الصباح!
لكنه ما إن فتح الباب حتى وجدها أمامه! آجنس الجميلة بشحمها ولحمها! فتح عينيه دهشة. كيف ذلك؟! إنها آجنس لا شك، عرفها على رغم التجاعيد التي تملأ وجهها.
- آرنست حبيبي.
ثم ألقت بنفسها عليه، فضمّها إليه بشوق الشاب، الذي ترك أهله ودياره، وتوجّه إلى إيطاليا متطوّعاً في الصليب الأحمر، وهناك ألقت آجنس عليه سحرها.
أدخلها البيت، ودقّات قلبه تتسارع. هل توفّي زوجها وقررت أن تعيش معه؟! يا لها من سعادة لو يتحقق أمله أخيراً.
استمرّ في النظر إليها، ذاهلاً عن كلّ ما عداها...
- أنا آسفة...
كان متوتّراً فقاطعها:
- أبدا يا آجنس، أنا جِدُّ سعيد لرؤيتك.
ابتسمت بمودّة، ثمّ قالت بصوت حزين:
- كان علينا أن لا نفترق.
ازداد توتره. لقد حوّلته إلى طفل ينتظر قطعة شوكولاتة! أمسك بأطراف أصابعها:
- مازال في الحياة متسع للسعادة.
تطلّعت في عينيه لبرهة، ثمّ سحبت أصابعها:
- لا أستطيع.
تمالك نفسه:
- أرجوك آجنس، أنا محتاج لكِ. لا أحد غيرك قادر على انتشالي مما أنه فيه!
- ....
- إننّي أعيش ظروفاً صعبة. أنا عاجز عن كتابة جملة قصيرة واحدة. إن قبلت العيش معي سأهبك كلّ ما أملك. فقط وافقي وسأكون أسعد الناس.
لكنها أدارت وجهها عنه:
- صدّقني لا أستطيع. لا أستطيع.
تجمّدت ملامحه لبرهة، ثم صاح غضباً:
- وماذا جئت تفعلين إذن؟! ألا يكفيك ما أنا فيه، حتّى تزيديني لوعة وكآبة؟!
- لقد اشتقت إليك.
- لو أنك اشتقت إليّ حقاً، لما رفضت العيش معي؟!
- أنت متزوّج.
- سأنفصل عنها الآن إن طلبت ذلك.
أجهشت في البكاء...
- مازلت تحبّني إذن؟!
اقترب منها مجدّداً:
- أنا لم أحبّ امرأة غيرك. كنت أبحث عنك في جميع النساء اللاتي عرفت.
- لكنّي لا أستطيع التخلي عن زوجي وأبنائي.
- نعم. لا تستطيعين التخلي عن القصر والسيارات الفارهة. أمّا آرنست فليذهب إلى الجحيم.
وبينما راحت تبكي، مخفية وجهها براحتي يديها. وقف جامداً، شاعراً بالعجز... غولاً ضخماً يسدّ أمامه منافذ النجاة!
ثمّ انحنى إلى الأرض والتقط بندقيّته بهدوء، وصوّبها دون تردّد. وارتمى جثّة هامدة مثقوبة الرأس!
ماشاء الله عمي قصه تجنن .. انجان خليت آرنست يعيش و يحصل له حب ثاني و يعيش بسلام
قصة جميلة
الروائي الأمريكي آرنست همنغواي على رغم تعدد علافاته. احتفظ بمكانة خاصة في قلبه لآجنس. التي تعرف عليها أثناء ما كان متطوع في الصليب الأحمر في إيطاليا. لكن مشهد التقائه بها في نهاية القصة هذا من خيال الكاتب. صحيح انه انتحر لكن في موقف مختلف.
السيد متعدد المواهب
قصة رائعة ومشوقة ..الله يوفقك ????????????
سلمكم الله جميعا. سعيد بمروركم الكريم
جميل جدا. أحسنت.
انت في هالسوالف ملك يا سيد