يذكر لنا التاريخ انه عندما كان محمد الفاتح يهم بدخول القسطنطينية - بيزنطة - بعد أن أصلاها بنيران منجنيقاته، كان رجال الدين المسيحي يتناقشون في قضية جنس الملائكة، أهم ذكور أم إناث؟ ومنذ ذلك اليوم وحتى قيام الساعة سجل اولئك أقبح مثل على انعدام الوعي والاحساس بروح المسئولية تجاه الأمة حين تتعرض لخطر الهلاك، حتى أصبح وصف كل جدل عقيم بـ «البيزنطي».
في الخمسينات حين كان التحضير للعدوان الثلاثي على مصر جاريا، كانت بعض التلفزيونات الموجهة تعرض حلقات المصارعة الحرة لينشغل الناس بمشاهدتها بصفتها امرا جديدا على المشاهد في هذه المنطقة. واليوم السياسة نفسها بحذافيرها... تتولاها قناة فضائية «عربية» لتلعب الدور نفسه.
ومن المؤسف أن تقوم أيضا بتكرار ذلك النموذج البيزنطي في هذه الفترة المفصلية من تاريخ الشرق الجريح. وهي حملة لن يستفيد منها إلا أعداء الاسلام والمسلمين، في وقت تتناوش فيه الذئاب الأمة من كل جانب، بينما «تتبرع» هي بالقيام بإثارة القضايا القديمة التي نخرت جسم الأمة وأدت إلى غرقها في مستنقع الفتن والمحن قرونا بعد قرون.
حوار أم جلسة تعليم للبذاءات؟
وإذا كان المطروح كله يجري تحت عنوان الحوار، فما أعظمها من مغالطة، فالحوار السليم له أصول وقواعد، أولها «وجادلهم بالتي هي أحسن». فأين هذه الأحسن من «حوار طرشان» تسوده الكلمات المتطايرة والتعبيرات المؤذية من منافق وكذاب وزنديق وملعون... في أسوأ عرض نقدمه للأجيال الطالعة لتتربى على قاموس اللعن والشتائم والكلمات الشنيعة. هذه الكلمات التي نكره نحن كآباء وأمهات أن نتلفظ بها أمام أطفالنا وفي بيوتنا... فإذا بها تقتحم علينا عقر دورنا كل ليلة على لسان الجماعة المنتدين. لنجد أنفسنا أمام خطر من نوع آخر يتحالف مع ما يسمى بالغزو الغربي، ليهدد كياننا ووحدتنا وتعايشنا ووجودنا كله.
والغريب ان هؤلاء الذين يفتقرون إلى أبسط أساسيات الحوار المهذب، يتصدون بزعمهم إلى محاولة حل قضايا شائكة وعالقة منذ أربعة عشر قرنا، فيريدون حلها بطريقة تبادل السب والشتم والتنابز والتكذيب والاستهزاء والسخرية، وكل طريقة معوجة نهى الله عنها في كتابه المجيد، ونفّر منها رسوله الكريم (ص).
الوحدة لا تأتي بالمهاترات والمزايدات، والبحث عن غلبة هزيلة موهومة على عدو موهوم، في الزمان الخطأ والظرف الخطأ. فأعداء الاسلام يتربصون به الدوائر، هم لا يفرقون بين سني وشيعي، الكل عندهم ارهابي ومجرم ومطلوب قطع رأسه، لكن هذه الجماعة لا تدرك هذه الحقيقة الناصعة للمبصرين، لأنها تعيش بين أغلفة الكتب الصفراء وتجتر أوراقها كالجمل الأجرب. إنما هي فتنة، سيدفع المسلمون ثمنها، والفتنة أشد من القتل.
نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين وهم يريدوننا أن نرتد إلى التورط في معمعة خلاف جرى وانقضى قبل أربعة عشر قرنا. عمر (رض) مضى لملاقاة وجه ربه الكريم، وعلي (ع) مضى أيضا، بعد أن ملّ المقام بين أمثال هذه النماذج الفارغة، التي لا تعرف من الدين إلا القشور، وختم حياته بكلمته الشهيرة: «فزت ورب الكعبة».
والسؤال: لماذا لا يجيد البعض غير نكأ الجراح الهامدة؟ أهذه هي الرسالة التي حمّلها القرآن لـ «حملة» العلم وأدعياء حماية الدين ليؤدوها في الحياة؟
المسلمون في خطر، وهؤلاء يعيشون كالسكارى والمدمنين كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وبهذا الطرح المتخلف، والحرب المفتعلة، واختلاق العداوة بين الأخوان... لا يدرون ماذا يراد بهم وإلى أين المسير. أين هم من رجل بسيط التقيته قبل سبع سنين، وترك لدي انطباعا لطيفا عندما تحدث عن التشيع والتسنن ووصف الاسلام بنهر طويل يتفرع عنه فرعان: سنة وشيعة. وصف أدبي جميل من رجل بسيط، أين منه هؤلاء الذين لا يجيدون غير لغة الفحش والشتائم والبذاءات؟
كفى سباتا
من يقول انه مجلس حوار علمي؟ من يدعي انها حوارات هادفة لخير الإسلام؟ هل سترفع شأنه أم ستزيدنا ،كأمة مستهدفة اليوم، ذلا ومهانة وضعة واستضعافا بين أمم الأرض وشعوب المعمورة؟ بالأمس دمرت أفغانستان ذات الغالبية «السنية»، واليوم تجرى الاستعدادات لتدمير العراق ذي الغالبية «الشيعية»، وفي كلا الحالين سالت وستسيل دماء المسلمين أنهارا. وهؤلاء يوجهون غضب الشارع ويؤلبونه على نفسه، في الوقت الذي ينتظر العالم سماع هطول الصواريخ على بغداد والحلة وكركوك، بعد أن فرغ من مشاهدة الصواريخ وهي تدك كابول وتورابورا وقندهار. والإعلام ما فتيء يتحدث عن بلدان أخرى على قائمة الانتظار: لبنان وسورية وإيران والسعودية ومصر... فكفاكم سباتا.
والله لو جاء عمر أوعلي أو أبو بكر (رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم) لبكوا اليوم على حالنا، ولتبرؤا من كل ما يجري باسمهم، ولقالوا للمسلمين هلموا إلى كلمة سواء...
تجربة الإمامين العظيمين
على أن تاريخنا الاسلامي المجيد حفل بنماذج راقية من أدب الحوار المتزن الرفيع. اقرأوا إن شئتم كتاب «المراجعات»، لتكتشفوا روح العلم النقي وتعرفوا شخصيات العلماء الحقيقيين، الذين ناقشوا أصعب القضايا ولم تصدر من أي منهم سبة ولا كلمة نابية أو عرجاء، في درس بليغ لمن يتصدى على الهواء لمثل هذه المواضيع الصعبة. كان الامام شرف الدين ذهب لاجئا إلى أرض الكنانة هاربا من بلاده لبنان بعد مطاردة المستعمر الفرنسي له، فحل ضيفا على مصر، ووقف الغريب في أول موقف أمام المصريين منشدا ذلك الشعر الخالد:
إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم فلا مشت بي في درب العلا قدم
فلما تساءل المصريون عنه وعرفوه وقدروه حق قدره، وجرت بينه وبين شيخ الأزهر حينذاك، الشيخ سليم البشري رحمه الله، تلك المراسلات الشهيرة، التي جمعها في كتاب قيم ضم بين دفتيه تلك النقاط الحساسة كافة، وناقشها بطريقة علمية وموضوعية متزنة، إذا قرأته اليوم ستشعر ما كان يجمع بين الشيخين الجليلين من ود ومحبة ورغبة في التوصل إلى الحقيقة، على عكس هذه المهاترات والسباب والتفسيق والتكفير التي تتنافى جملة وتفصيلا مع توجيهات القرآن الكريم وآدابه الرفيعة.
وقبل شرف الدين جاء جمال الدين من النجف إلى مصر، حيث زرع فيها بذور النهضة ومقارعة المستعمر الإنجليزي. وعاش حاملا بين جنبيه هموم المسلمين جميعا، فالرجل العظيم لم يتحدث عن مذهبه بل كافح في سبيل الإسلام والمسلمين حتى آخر لحظات حياته سجينا في أحد قصور اسطنبول، ليُدفَن مع سره الذي لم يُكشف إلا بعد عقود من الزمان.
التقريب بين المذاهب
تجربة أخرى لاتقل روعة وعظمة عن تجربة الشيخين، وهي ذلك المسعى المحمود الذي تصدى له مجموعة من كبار علماء الأمة المخلصين في الستينات وحملوا الدعوة الى «التقريب بين المذاهب». العنوان نفسه يدل على نضج وحكمة المتصدين للقضية، فإذا لم يكن من الوارد أن نناقش من هو الأحق، مادام كل طرف ينظر إلى الحق من زاويته، فلا أقل من أن نعيش أخوانا، يجمعنا هذا الدين الحنيف تحت ظلال رحمته، ولماذا نضيّق على أنفسنا ونحارب بعضنا. هذه التجربة الرائعة حققت بعض الانجازات، منها الاتفاق على تفسير موحد للقرآن، استمد من مجموعة التفاسير المعتبرة لدى الفريقين، وطبع مجلة جامعة، وأنشطة أخرى لا مجال للحديث عنها في هذه العجالة، ولكني أريد ان أخلص إلى القول ان ما يجمعنا اكثر بكثير مما يفرقنا، فلماذا هذا الاصرار العجيب على العيش في شرنقة الماضي إلى الأبد؟
إذا قرأنا التاريخ فلن نجد خيرا في إثارة مثل هذه الطروحات على الاطلاق، إلا مزيدا من الفرقة والتشرذم والشقاق، وإلا مزيدا من العداوة والبغضاء، وإلا مزيدا من شق الصفوف، في وقت المسلمون فيه في أمس الحاجة إلى التوحد والتآلف والتكاتف، فالخطر آتٍ على أرواح المسلمين وبلدانهم وأعراضهم. إذا لم تكونوا تفهمون لغة العقل والحكمة فنخاطبكم بلغة العرض المباح والأرواح المسترخصة والدم المسفوح الذي سال أنهارا... وينتظر المزيد... لعل النائمين يفيقون
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 87 - الأحد 01 ديسمبر 2002م الموافق 26 رمضان 1423هـ