لم يسبق ان وصلت العلاقات الثنائية الاميركية - الاسرائيلية إلى ما وصلت إليه اليوم من شبه اندماج في الرؤية الاستراتيجية. سابقا كانت واشنطن هي الحليف الثابت لسياسات تل ابيب لعوامل داخلية (انتخابية) أو لدوافع خارجية لها صلة بالضغط على الدول العربية لانتزاع تنازلات منها.
اليوم اختلفت المسألة، بانتقال العلاقات من مصالح محددة إلى منطلقات ايديولوجية شبه ثابتة لا تتأثر بتوازن المصالح ولا تخضع لموازين القوى الدولية.
وصل التحالف الثنائي الاميركي - الاسرائيلي إلى حده الاقصى أو طور تلاشي الحدود بين الطرفين في وقت تجد فيه الدول العربية نفسها معزولة دوليا، تحاول جهدها التكيّف مع متغيرات عالمية متسارعة لا تقوى على استيعابها ولا تستطيع ان تحدد هويتها وجغرافيتها. فالدول العربية اليوم مستهدفة بعينها وليست وسيلة لأهداف دولية تتنافس الاقطاب عليها، كما كان الامر قبل اكثر من عقد.
انتهت تلك الفترة أو على الاقل وصلت العلاقات إلى طور يريد تجاوز مرحلة تقاسم الوظائف إلى طور الاحتكار السياسي للوظائف. والاحتكار السياسي يشبه إلى حد كبير الاحتكار الاقتصادي، اي الغاء الوكالات الاقليمية وربط المصالح مباشرة بالمركز او بلاد المنشأ.
هذا النوع من العلاقات التبعية المباشرة (إما معنا أو ضدنا كما قال الرئيس جورج بوش في خطاب له بعد ضربة 11 سبتمبر/ أيلول) يناسب «اسرائيل» اكثر من الدول العربية. فتل ابيب التي لعبت دور «الوكيل الاقليمي» لفترة اربعة عقود مقابل مبالغ طائلة من الاموال، أصبحت مستعدة بعد حرب الخليج الثانية (1991) للتخلي عن وكالتها مقابل التحول إلى الحليف - القاعدة الذي يلبي كل الشروط الاميركية مادامت اهداف الحملة هي اضعاف الدول العربية وإعادة اخضاعها لسياسات دولية مباشرة تحددها واشنطن، لا مصالح العواصم العربية.
«اسرائيل» في هذا المعنى الاستراتيجي هي اقرب نفسيا وثقافيا بمئات الدرجات من الدول العربية. والولايات المتحدة في توجهاتها الايديولوجية الجديدة هي اميل إلى تبني «اسرائيل» واعتمادها قوة داخلية تلعب دور «حصان طروادة» في منطقة جغرافية حساسة سياسيا وغنية بالمال والنفط والتجارة.
هذا النوع من التحالف الاستراتيجي (الابوي) بين واشنطن وتل ابيب يضع الدول العربية امام تحديات جديدة مختلفة عن تلك التي مرت بها سابقا. قبل هذه الفترة اعتمدت الولايات المتحدة استراتيجية توازن المصالح أو تقاسم الوظائف، فهي كانت تضع «اسرائيل» في كفة ومجموعة الدول العربية في الكفة الاخرى. حتى المساعدات المالية كانت توزعها واشنطن مناصفة: نصف لتل ابيب والنصف الآخر لباقي العواصم العربية الحليفة للولايات المتحدة. كذلك الامر في الدعم العسكري أو بيع المعدات الحربية اذ كانت تعطي «اسرائيل» ما يكفيها وتبيع بعض الدول العربية ما يناسبها من اسلحة.
الآن (كما يبدو من التوجهات الايديولوجية الجديدة) انتقلت واشنطن إلى مرحلة احتكار السياسة وهي تعني استراتيجيا إلغاء وظائف الوكالات وتركيز المصالح في جانب واحد نظرا إلى اختلاف الفضاءات العالمية وانكفاء التعدد الدولي لمصلحة قيادة واحدة للنظام العالمي الجديد. وصلت الآن العلاقات الاسرائيلية - الاميركية إلى مرحلة التلاشي (الاندماج). واهتراء الوكالة الاقليمية لتل ابيب يضع الدول العربية مباشرة ووجها لوجه امام الولايات المتحدة. فحين يسقط دور الوكيل الاقليمي لابد ان يأخذ اللاعب الاصيل المبادرة ويبدأ بإدارة المصالح مباشرة من المركز لا من الوسيط. فالدول العربية الآن لا تواجه «اسرائيل» بل اميركا، وهذا له حسابات مختلفة عن تلك الحسابات المتداولة سابقا.
لم يسبق ان وصلت العلاقات الثنائية إلى ما وصلت إليه اليوم. فالاندماج في الرؤية الاستراتيجية شجع اريل شارون على طلب مساعدة عسكرية اضافية تبلغ اربعة مليارات دولار تضاف إلى المساعدة السنوية التقليدية. وزيادة عليها طلب شارون من بوش الابن ضمانات قروض تصل إلى عشرة مليارات. والفارق بين بوش الاب وابنه ان الاول مانع تلبية الطلب المشابه في العام 1992 إلى ان وافق وبعد فوات الاوان في اللحظات الاخيرة التي سبقت الانتخابات الرئاسية... أما الثاني فإنه وافق عليها مباشرة وقبل اجازتها من الكونغرس الذي يبدو انه اكثر حماسة في الموافقة عليها.
الكونغرس موافقته مضمونة، وبوش كذلك، والدول العربية غير قادرة على الاعتراض... و«اسرائيل» هي الرابح الاكبر من العلاقات «الابوية» الجديدة. نحن فعلا نمر في طور دولي جديد ومن علاماته بلوغ العلاقات الثنائية الاميركية - الاسرائيلية درجة التلاشي... أو الاهتراء
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 87 - الأحد 01 ديسمبر 2002م الموافق 26 رمضان 1423هـ