الصديقان. جملة فنّية مكتملة تستدعي الفنانين القديرين عبدالجبار الغضبان وعباس يوسف وتشير إليهما، هكذا واضحة بلا خبر مهما كان نوعه. الصديقان. صفة ونعت عليهما بلا إضافة لفظية. صداقة نادرة في حقل الفنون التشكيلية في البحرين أصلها العلاقة الإنسانية قبل الفنّية، فلما ترسّخت الثانية وتأكّدت استحالت إلى إنسانية أيضاً. هذا هو مآل الفنون في طبيعتها: أن تعرف نفسك أولاً، ثمّ تبحث عن علائقها في النظائر.
الصديقان أنجزا أربعة عشر (14) معرضاً تشكيلياً مشتركاً، الأوّل كان في العام 1994 في جاليري غدير بدولة الكويت، والثاني في العام 1995 في جاليري الفينيق بالأردن، ومن هاتين التجربتين المشتركتين انطلقت المعارض الأخرى كان آخرها في صالة جمعية البحرين للفنون التشكيلية، يوم الأحد (30 أبريل/ نيسان 2017)، ولكثرة هذه المعارض وغناها بدا لي أن معارضهما المنفردة هي مشتركة أيضاً.
الصديقان، لهذه العلاقة تاريخ بدأ في مختبر فنّ الجرافيك -أقصد البداية الفنّية بينهما - حيث اللوحة الفنّية صناعة في أكثر أجزائها وخطوات تخلّقها. الفنّ في فكرة اللوحة، أعني تلك الفكرة التي تأتي من القلب، بعد ذلك تدخل في مختبر صناعتها: توزيع الحبر على القالب الصُلب، ترطيب الورق، تمييعه، استعداداً للطباعة، الطباعات الأوليّة حتى يرضى الفنان عنها. هنا ربّما، أقول ربّما بدأت علاقة جبار وعباس تدخل في مختبر القلب والشعور. جبار الذي جلب الطباعة إلى البحرين وأقام أوّل معرض لها في العام 1978م مشاركاً بلوحاته الأولى، ممثلاً نادي النعيم الثقافي والرياضي، وذلك في المعرض السنوي للأندية في البحرين، وضمن النشاط التي تنظمه المؤسسة العامة للشباب والرياضة. يومها كان جبّار طالباً في الفنون في المرحلة الأولى من دراسته الجامعية في دمشق، لوحاته كانت تعبّر بشكل رمزي عن العلاقة بين الرجل والمرأة.
يغادر جبّار بعد عام لإتمام دراسته في فنّ الجرافيك، يتخرّج ويبقى في دمشق حتى العام 1985م. عاد وانضمّ لجمعيّة البحرين للفنون التشكيلية، وخلال الأنشطة الفنّية والثقافية والندوات التي يلقيها جبّار التقى بعبّاس يوسف عضو الجمعية واشترك معه في أنشطة الجمعية الثقافية. استقلّ جبّار بمرسم صغير تابع للجمعية، دعا بعض الفنانين إليه: عباس يوسف وجمال عبدالرحيم وآخرين. بدأ جبّار دروسه العملية الخاصة بفنّ الجرافيك، الذي بدا صعباً في البداية. لكنّ هذه الصعوبة قطّرت الفنانين في مرسمه فكان عباس وعبدالرحيم ممّن بقي حتى أتقنا فنّ الجرافيك.
عبّاس يوسف الذي كان فناناً وخطّاطاً ومدرس خطّ وفنّ في مدراس البحرين، صار يوظف هذا الفن في الجرافيك وبدأ الصديقان أعمالهما المشتركة في معارض داخل البلاد وخارجها. بدءاً بدولة الكويت ولم يتوقفا حتى هذا يومنا هذا. وهما إذ يفعلان ذلك ينطلقان من مرسمهما (عشتار) التابع إلى الجمعية. هو ذاكرتهما المشتركة، على جدرانه سيَر وقضايا فنّية وتقنيّة وملخص حوارات أو أحداث جرت فيه، فعبارة جان كتكو «أخاف إنساناً لا يقرأ الشعر» تفاجئ أوّل من يفتح الباب، وتعني: نحن أيضاً!!! وعبارة «النسب وهم» تعني: تعال بنفسك فقط! الساعات اليدوية التي توقف عنها الوقت عُلّقت في المرسم، مسجلات الصوت، أدوات رسم قديمة، مقتطفات من الصحف، بطاقات الدعوة القديمة للمعارض، أغلفة رسائل، ألواح الجرافيك النحاسية، عبارات وأرقام خاصة بهما، إطارات ورقية.
البقاء في عشتار حتى منتصف الليل وحيويتهما عند كل معرض. وكأنّ المكان في سيرتهما هو: عشتار. يتعب الأصدقاء، يغادرون المرسم واحداً واحداً، يصمد عباس يوسف قليلاً بما بقي فيه من طاقة لملمها بعناية من أمنيات النهار... يخذله جسده فيغادر. يظلّ جبّار الغضبان وحده سامراً مع نساء لوحاته حتى الفجر. وفي اليوم الثاني يستعرض علينا ما أنجزه في تلك الخلوة. وماذا يأتي من خلوة فنان مع نساء كلهن قندات؟
كأنّ جبار عندما يدخل المرسم لا يرتاح. المرسم عنده مكان لمطاردة خواطر الفنان وإسكانها قماش لوحاته. هكذا هو ما إن يجلس قبالة لوحاته حتى يسكن. كان الصوفي النفّري يقول: «إنما اسمك مكتوب على وجه ما به تسكن»، ووجوه نساء جبّار قنداته اللواتي يسكن فيهن، يستفز ببهائهن الناظرين. أتذكر أنّي صورته كثيراً وهو في مثل هذه الحالات. كنتُ أظنّه لفرط السكينة نعسَ ونام، ولم يكن كذلك. مرسم يعتمر حياةً بعمارة جبار وعباس له. الأوّل بقدراته على خلق وجوه نسائه الجديدات ورمزيات المرأة التي لا تنتهي وعلى قدر خمرته فيهن، والثاني بهبة حروفياته وبهبته كلّ هذا الحبّ للمكان.
الصديقان عادا إلى الكويت في العام 2015م وبعد مرور عشرين عاماً على معرضهما المشترك الأوّل. يقولان: «مساء يوم الأربعاء (18 يناير/ كانون الثاني 1995)، من القرن الماضي على صالة غدير جاليري في مجمع الصالحية التجاري لصاحبته الصديقة الفنانة الكويتية القديرة ثريا البقصمي، كان معرضنا الأول المشترك، منه انطلقت شرارة مسيرة تجربتنا الثنائية، مدفوعة باهتمامها بفنون الجرافيك ممارسة وثقافة استضافت الفنانة ثريا البقصمي معرضنا آنذاك، كنا نحمل مهمة رسولية تبشيرية، تقضي بنشر هذا الفن الذي يعد بصورة أو أخرى حتى هذه اللحظة مهمشاً في أغلب أقطار الوطن العربي، ولاسيما في دول الخليج العربي. نعود إلى نقطة الكويت بعد عشرين عاماً حاملين تجربة فنية أخرى، لا تختلف عن تجاربنا الفنية السابقة، بقدر ما هي امتداد لها، وإن اختلفت التقنيات وأساليب المعالجات، تجربة تبدأ من تلك اللحظة وتنتهي إليها، وكأنها الوليد الذي ينمو رويداً رويداً في كنف حضن أمه. نأتي الكويت بعد عشرين عاماً نعرض تجربتنا الثنائية على صالة قاعة الفنون بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب محمّلين بهاجس الماضي وثقله وبمراجعة مشهد كيف استقبلنا من قبل وسائل الإعلام والفنانين والمهتمين وقتذاك».
معرض الصديقين الجديد في صالة جمعية البحرين للفنون التشكيلية افتتح في 30 أبريل الماضي، تحت رعاية الرئيس الفخري لجمعية البحرين للفنون التشكيلية، الشيخ راشد بن خليفة آل خليفة. قدّما فيه لوحاتهما خارج فن الجرافيك تماماً، ليثبتا في كلّ مرّة قدرتها على التجدد في انتاجهما، رؤيتهما أيضاً.
المعارض المشتركة للصديقين:
2017 ، صالة جمعية البحرين للفنون التشكيلية،2010، معرض ثنائي مع الفنان الأردني محمد الجالوس- جاليري كامل – دمشق - سورية،2004، مركز الفنون - البحرين،2000، صالة الرواق - البحرين،1999، صالة المشرق - الأردن،1998 ، جاليري الكوفة - لندن، 1998، الجمعية العمانية للفنون - مسقط، 1998، صالة عشتار- دمشق، 1998، صالة الخانجي - حلب،1997، صالة ميدبروس - كوبنهاغن،1996، صالة شيلداني - كوبنهاغن،1995، جاليري الفينيق - الأردن،1994، جاليري غدير - الكويت.
كاتب المقال انت من وجهة نظري فنان لا تختلف عن من كتبت هم ابدعوا في فن الجرافيك والحروفيات وانت ابدعت في صياغة المقال فانت تشترك معهم بقلمك وهم بالفرشاة
تسلم والله وشكراً لذوقك ..
==من اجمل ما قرات وما خطته يد عن الصديقين...لله درك يا حسين..قد يأتي يوما تطرح فيه كتابا عن جبار ويوسف يكون مرجعا للفنانين ومسودة لسيناريو فلم طويل
الله .. هذا مشروع مهم جدا لرجل وانسان لم يحظ بنصيب اعلامي واسع على الرغم من ثقافته وتمكّنه الفنّي.. اقتراح رائع شكراً لك