العدد 5355 - الجمعة 05 مايو 2017م الموافق 09 شعبان 1438هـ

فيلم «الجارف»: لا حق للاعتراض على البشاعة

لقطة من فيلم «الجارف»
لقطة من فيلم «الجارف»

لم تعد المشاهد السينمائية التي تصوّر العنف والوحشية، اليوم، ضرباً من خيال سادي لكاتب أو رؤية إخراجية مضخّمة ومبالغ فيها من أجل أغراض الإثارة ورفع نسب المشاهدة للعمل السينمائي. ولن تصنّف الأفلام التي تضم هذه المشاهد كأفلام رعب أو إثارة أو ما شابه، لكن هذه المشاهد والأفلام، أصبحت اليوم، ومهما بدت فانتازيتها، تؤدي غرضاً توثيقياً مهماً، وتمارس مهمة في نقل واقع مؤلم صادم. ولذا فلا حق لمشاهد ما أن يعترض على أي مشهد سينمائي يصور وحشيات عالم اليوم، مهما بدت فانتازيته.

ينطبق ذلك بكل تأكيد على البطولات التي تصورها تلك الأفلام، والتي يقدم عليها ضحايا عنف وبشاعة الواقع الذي نتحدث عنه. هذه البطولات هي أيضاً ليست ضرباً من الخيال، وقد لا تعد بطولات أساساً بل سلوكيات طبيعية وردود فعل دفاعية ضرورية لحماية الوجود الإنساني.

وهكذا، فإن المشهد الافتتاحي الصادم في فيلم «الجارف» (The Torrential) الذي أخرجه اللبناني بلال خريس، لا يتضمّن أي مبالغة حين يصور مشهد قتل فتاة من الموصل على أيدي أعضاء ينتمون لما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). كما لن يكون الفيلم خيالياً وهو يستعرض شجاعة ذوي الفتاة حين شاركوا في تحرير مدينتهم «بيجي» الواقعة في الموصل بشمال العراق.

خريس يشير منذ البداية إلى أن فيلمه هذا مقتبس من قصة حقيقية، إنها قصة تحرير مدينة بيجي من قبضة داعش. ومنذ البداية أيضا يضع المخرج مشاهدي فيلمه في حالة ترقب وحذر، بدءاً من مرافقتهم لبطل الفيلم (الممثل العراقي مازن مصطفى) وهو يجول بالقرب من موقع عسكري تتمركز قوات داعش فيه. والبطل ليس سوى شيخ عجوز يحاول تتبع أثر ابنته سارة التي اختطفها أفراد من داعش إبان هجومهم على المدينة متخذين منها سبية لزعميهم.

ما سيشاهده العجوز حينها سيشكّل بشاعة لكن تجسيداً لواقع حي عايشه أهالي شمال العراق منذ وقت قريب. تلك البشاعة التي نجح المخرج ومدير تصويره نهاد عزالدين، وربما مؤلف موسيقاه رعد خلف، في نقلها أو الإيحاء بها. ولن تكمن البشاعة في مشهد التنكيل بالفتاة ومن ثم قتلها فحسب، لكن حتى في قبح خطاب التنظيم الذي يأتي على لسان أحد زعمائهم وهو من يأمر بذبح الفتاة بعد أن ترفض الانصياع لشهواته. يلوم من أحضرها لشراستها معترضاً بأنه كيف يمكن له أمَّ المصلين وآثار خدوشها ظاهرة على وجهه، منهياً لومه بالتذكير بأن «من غشنا فليس منا».

جودة التصوير العالية ستزيد من حدة المشاهد وتأثيرها الصادم، ربما لأن التصوير تم اصلاً في مدينة بيجي حيث جرت الأحداث الحقيقية، وربما لأن المصور أحسن اختيار زاوية تصوير كل مشهد والإضاءة المناسبة له، ما خلق أثراً مضاعفاً ومشاهد أكثر قدرة على نقل حجم البشاعة من جانب، وتبيان قدر المعاناة والألم اللذين يعيشهما أبطال تلك المشاهد من جانب آخر.

عبر ساعة وخمسين دقيقة، يقص الفيلم ثلاث حكايات تتداخل أجزاؤها ويلتقي أبطالها لاحقاً ليحرروا المدينة جميعاً. سيكون الشيخ العجوز المقتفي أثر ابنته، هو وأسرته التي تتكون منه وزوجته (تقوم بدورها الفنانة العراقية عواطف السلمان) وابنه محمد، هما محور هذه الحكاية.

الحكاية الثانية ستدور في حي السكر الواقع بمحافظة نينوى بشمال العراق. وكما بدأت الحكاية الأولى، يطالعنا المخرج ببشاعة أخرى كبداية للحكاية الثانية، حين يهجم الدواعش على هذا الحي المسيحي، ليقوموا بعملية إعدام جماعي لمجموعة من أهالي الحي. يعرف خريس كيف ينقل بشاعة الحدث، حين يضيف إلى قائمة المقرر إعدامهم طفلة صغيرة يقوم جلادها بتضبيط غطاء رأسها قبل أن يشد على معصمها الحبل الذي يربطها بباقي المحكومين بالإعدام تفجيراً، فيما تطمئن هي قطتها الصغيرة وتعدها بأن تبقيا معاً. سيتناول الزعيم أول لقمة من مائدة وضعت له بالقرب من موقع التفجير، ثم سيضغط الزر لتتناثر أشلاء الضحايا فيكبّر جنوده. ستنجو فتاة من سكان الحي ستكون هي محور الحكاية الثانية.

الحكاية الثالثة ستدور أحداثها في موقع عسكري ميداني لأحد فصائل المقاومة العراقية. هنا سنعيش أجواء أكشن وإثارة وفّق المخرج في نقلها بتصويره أجواء التخطيط للعمليات العسكرية التي ينوي فصيل المقاومة القيام بها للقضاء على الدواعش في المنطقتين المذكورتين.

سيعتمد المخرج أسلوب التوثيق في هذا الفيلم الدرامي، لتشعر بالرعب والألم اللذين عاشهما أولئك الذين يسرد فيلمه حكاياتهم. سيوضح المخرج أسماء المواقع التي يصور فيها حكاياته، سيهتم بنقل تفاصيل الحياة الصغيرة، الطعام، الطرقات، الملابس، ثم سيختم فيلمه بمشاهد حقيقية من عملية تحرير مدينة بيجي التي تمت بتاريخ 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 والتي أطلق عليها عملية السيل الجارف.

وعلى رغم الحس التوثيقي الطاغي على الفيلم، إلا أن المخرج تمكّن من تقديم فيلم درامي بإنتاج عالٍ، حبكة رصينة، رؤية اخراجية متمكنة، وتصوير متقن أنتج مشاهد بليغة، مصحوب بموسيقى مؤثرة ومكملة لنقل الحدث.

هل هي القضية التي يناقشها الفيلم أم إنتاج الفيلم العالي من شركة سبوت شوت، أم براعة الإخراج هو ما قدّم فيلماً برصانة «الجارف» وبقوة منطقه؟ مهما يكن من أمر، الفيلم جيد ويستحق المشاهدة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً