الأفكار لا تموت، تنكفئ وتتقدّم تبعاً لظروف تاريخية، وأسباب موضوعية، وحين تتراجع فكرة ما، فإنها تستمر في انتظار فرصة تأكيد الحضور مجدداً. والدورات التاريخية، ليست في حقيقتها سوى استعادة لأفكار خبت، وغياب لأفكار أخرى غابت شمسها.
التاريخ الإنساني، في مجمله، هو صراع بين مصالح اجتماعية، وتوق للسيطرة على الموارد والمنافع. تتلفع هذه الصراعات في الأغلب بأفكار نبيلة. وتنقسم الرؤى، بين منطلقات مثالية، وأخرى مادية، تتناوب في أدوارها، لكن أياً منها لن يكون بوسعه إلغاء الآخر.
كان ذلك واقع الحال، منذ الحضارة اليونانية، وقبلها حضارات ما بين النهرين ووادي النيل، وصولاً إلى الحضارة العربية الإسلامية، وإلى العصر الحديث. هناك في التاريخ العربي، جبرية وقدرية، وأشاعرة ومعتزلة، وكثير من المذاهب الفكرية، التي تنقسم في جوهرها، إلى إحدى الرؤيتين. ولم يتمكن أي من هذه الطرق من وأد منافسيه، إلى ما لا نهاية. كانت حقبة الخليفة المأمون، هي العصر الذهبي لفكر المعتزلة، وجاء الخليفة العباسي المتوكل، لينكّل بهذا الفكر وأتباعه. لكن هذا الفكر بقي يتحين فرصه التاريخية، ليعود بشكل آخر، في تهافت التهافت، لأبي الوليد ابن رشد. والحال هذا ينسحب على كل الأفكار، بكل توجهاتها.
المشروع النهضوي العربي، لم يكن وليد لحظة معينة، بل هو حاصل تراكمات فكرية، وقد كانت الثورات الإنسانية الكبرى، في القارة الأوروبية وأفكارها عناصر تحريض لزعماء اليقظة العربية. بمعنى آخر، استعار مشروع اليقظة العربية، من تلك الثورات، توجّهه العلماني، بالشعار المعروف «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله». وذلك أساس التوجه الديمقراطي، ودساتيره المنبثقة من قوانين وضعية.
من جهة أخرى، التزم المشروع النهضوي العربي، بفكرة الأمة. ومع أن المفكرين القوميين لم يربطوا وجود الأمة العربية بقوى الإنتاج، وكسر الحواجز الجمركية، لكن لحظة انبعاث حركة اليقظة، والشعارات التي رفعتها، وبروز الطرح القومي، المتزامن مع تصاعد حركات الاستقلال، من الاستعمار في القارات الثلاث، تشي جميعاً بأن ثمة مخاتلة، وأن الأمة العربية، في نسختها المعاصرة، هي أمة تحمل الفكرة الأوروبية.
وليس أدل على صحة قراءتنا هذه، من تبني حركة اليقظة في فكرها وبياناتها، للأفكار السياسية الأوروبية، وبشكل أكثر تحديداً لمبادئ الثورة الفرنسية، فالأمة في نسختها الجديدة، هي نسخة البرلمان والدساتير، وتداول السلطة وحرية الصحافة، والمجتمع المدني، وفصل الدين عن السياسة. وهي بهذا المعنى لم تكن معروفة في الأمة العربية، التي سادت حتى نهاية العصر العباسي.
صحيح أن حركة النهضة العربية، ممثلة في الحركة القومية، قد تراجعت بعد حرب الخامس من يونيو 1967. وكانت دورة جديدة للإسلام السياسي، منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي، حتى يومنا هذا. لكن القول إن أفكار هذه الحركة لم تعد حيّة، فيه تنكر كبير، يدحضه واقع التحولات التي جرت في الوطن العربي في السنوات الأخيرة.
أوليست الشعارات التي رفعت في الميادين بالمدن الرئيسية، قبل 6 سنوات من هذا التاريخ، والتي طالبت بالخبز والحرية والكرامة، هي استعادة بصور أخرى، لشعارات حركة اليقظة العربية أم أنها كانت بالمطلق خارج هذا السياق؟
التاريخ لا يعيد نفسه، لأن الاستعادة مكانها علم الميكانيكا وليس علم الجدل. وليس يضير مشروع النهضة، أن تكون الشعارات التي أطلقت قبل 6 سنوات مغايرة، أو مرتبكة، أو أن بعض العناوين مختلفة. فالجوهر هو إقامة الدولة العربية على أسس عصرية، وهي أيضاً تمثل جديداً للمبادئ الوافدة من الغرب، تماماً كما حدث لحظة انبثاق حركة اليقظة العربية.
ولأن التاريخ لا يكرر نفسه، وجب أن تكون القراءة علمية ودقيقة لخصوصية كل مرحلة. وفي هذا السياق، يمكننا القول، بوجود رافعة واضحة لحركة اليقظة، أسهمت في تمكينها من إنجاز مشروع التحرر من الهيمنة العثمانية، بينما لم توجد رافعة، بمعنى قوة اجتماعية تقود الحركة الاحتجاجية، التي برزت قبل 6 سنوات. وقد أسهبنا من قبل في مناقشة هذا الموضوع، ولن نعود ثانية له.
المشروع النهضوي العربي، مطالب في هذه اللحظة بقراءة ما جرى في السنوات الأخيرة، بأذن صاغية وعقل مفتوح. وليس يكفي القول إن ما حدث كان كارثياً بكل المقاييس. إنها ليست لحظة تقديم أحكام، بل لحظة قراءة نقدية وتحليل وتفكيك، واستيعاب للتجربة واستخلاص الدروس منها.
الفكر النهضوي العربي، مطالب بأن يعيد النظر بجرأة وشجاعة في مفاهيمه، ومواقفه. وأن يتعدّى حالة السكون، وأن تكون رؤيته تاريخية. ولعل المهم في هذه المرحلة، هو مغادرة المراوحة، بين التقدم والانكفاء، في الزمان والمكان. لا مناص من تخطي الغربة التاريخية، وتجنب الحديث عن الماضي، فنسخة الأمة العربية، النسخة المطلوبة، هي نسخة جديدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، نسخة ليست لها علاقة بالماضي التليد، سوى علاقة الوجدان والذاكرة. إن النسخة الجديدة، التي بشّرت بها حركة اليقظة، وتبناها المشروع النهضوي العربي، آن لها أن تطور عناصره لتشمل بالإضافة إلى الوحدة العربية والتنمية المستقلة، ورفض التبعية، واحترام حرية الرأي، وبناء الدولة العصرية، عنصرين جديدين مهمين هما الجغرافيا والعيش المشترك، وتغليب العنصرين الأخيرين، على ما عداهما كعنصرين لازمين في نشوء الأمم. وذلك هو ما أثبتته التجربة التاريخية، في أمم عريقة كالهند والصين.
الانتماء للأمة العربية، ينبغي أن يركز على الانتماء للجغرافيا، وعلى العيش المشترك، لكي يسد منافذ التفتيت والتقسيم، وذرائع وجود بشر على الأرض العربية، من غير الناطقين بلغة الضاد.
وحين تكون القراءة صحيحة، وتحليل الواقع المعاش، بكل تشعباته الدولية والإقليمية والمحلية صحيحاً، عندها فقط يكون حملة المشروع العربي النهضوي قد وضعوا بوصلتهم في الاتجاه الصحيح، وعندها نكون أمام دورة نهوض تاريخية جديدة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 5354 - الخميس 04 مايو 2017م الموافق 08 شعبان 1438هـ