من بين الشعارات الجديدة، التي يرفعها المحتجون على العولمة، شعارات مناهضة لما بات يعرف بـ «عولمة ديكتاتورية الأسواق» على حساب الديمقراطية، وشعارات داعية إلى صيانة الديمقراطية، التي تسحقها حرية الأسواق. بينما يركز خطاب العولمة على ان «تحرير الأسواق والتجارة سيؤدي إلى تدعيم الديمقراطية». واذا كانت بعض الطبقات الحاكمة في العالم الغربي صارت اكثر صرامة ضد توجهات العولمة عندما بدأ بعضهم يشير إلى انه لا يمكن الانسياق تحت رحمة قوى السوق، فإن عددا غير قليل من المفكرين والمتابعين للاختناقات التي ساهمت العولمة بانتاجها صاروا اكثر حذرا فيما يتعلق بالمساهمة الديمقراطية للعولمة، وذلك انطلاقا من حقيقة اساسية من انه لا يمكن ان تكون هناك ديمقراطية حقيقية في «مجتمع يوجد فيه الكثير من عدم المساواة والفقر». ولأن العولمة باتت تزيد الفقر وتعمق عدم المساواة في المجتمعات المختلفة فإنها صارت حليفا لاعداء الديمقراطية.وفي الواقع ان المحتجين على العولمة صاروا يعبرون في بعض الشعارات عن وعي عميق بالتحديات التي باتت تطرحها العولمة على النموذج السياسي الغربي بما في ذلك المصير الذي يمكن ان تؤول إليه الديمقراطية الغربية. وهنا يبدو ان المؤيدين للعولمة والمناهضين لها يقفون على حد سواء في خندق الدفاع عن الديمقراطية. فالمعلوم ان واحدة من أهم تجليات نظام العولمة المعاصرة هو العمل على توسيع نطاق الديمقراطية لتصير المرتكز لقيام حضارة عالمية واحدة، بعد ان اضحت هذه الديمقرطية بمؤسساتها وتنظيماتها نظاما استدعائيا يغري بالمحاكاة والتقليد في الكثير من ارجاء العالم حتى من قبل اولئك الذين يعادون الغرب او يدعون مخاصمة نموذجه. وحال الجمهورية الاسلامية الايرانية مثال حي. فلقد صممت الجمهورية الاسلامية نموذجا للممارسة السياسية على الطراز الغربي من حيث الشكل على الاقل حتى وان اتخذت هذه المؤسسات فيها مسميات ذات صبغة اسلامية. وتأسيسا على تجربة القرنين الماضيين اللذين اظهرا تلازما ما بين الديمقراطية والليبرالية فإنه من الطبيعي ان يرى مناصرو العولمة في قيام نظام اقتصادي ليبرالي عالمي انه سيؤدي حتما وبالضرورة إلى توسيع نطاق الديمقراطية ويدعم اتساعها سيما وانها اساسا اثبتت انها النظام الأكثر نجاحا والأكثر إغراء على الاقتداء. وفي المقابل فإن مناهضي العولمة يعتقدون ان الديمقراطية وحرية الاسواق من دون توازن وعملية ضبط لاندفاع حرية التجارة ستؤدي حتما إلى حال من التصادم فيما بينهما. فالديمقراطية تهتم بالفرد وبرفاهيته بوصفه هدفا أساسيا. وعلى العكس من ذلك فإن مبادئ اقتصاد السوق تعامل الفرد بوصفه سلعة يمكن الاستغناء عنها بسبب الضرورة أو الثقافة او المستوى التعليم او المهارة او القدرات الجسمانية. اضافة إلى ذلك، فإن الديمقراطية ترتكز على الحقوق المتساوية للمواطنين. وعلى النقيض من ذلك فإن مبادئ اقتصاد السوق ترعى التباين وعدم التكافؤ وتحرم بعض الناس من القدرة على توفير حاجاتهم الاقتصادية الأساسية الامر الذي يقلل من قدرتهم على ممارسة حقوقهم السياسية كاملة. اكثر من ذلك فإن الديمقراطية تتعزز مع الاستقرار وهي تستند إلى ائتلاف الافراد (المواطنين)، فيما تعمل مبادئ افتصاد السوق على تشجيع الانانية والمراكز الفردية المتنافسة ولا تشجع الائتلافات الفردية، وهي في الوقت نفسه لا تعرف الاستقرار فهي تنتقل برؤوس الأموال والبضائع والأشخاص حيثما يوجد طلب، وبالتالي فإن أهم عوائدها ومكاسبها تتحقق عن طريق المضاربات غير المستقرة. ويضيف المناهضون للعولمة انه بسبب التناقض القائم في جوهر كل من الديمقراطية والليبرالية، كان لابد من الناحية الواقعية ان يبرز احد المفهومين على حساب الآخر. بالآخر. وفعلا فان العولمة سمحت لمفهوم اقتصاد السوق بأن يتغلب على حساب الديمقراطية والنتيجة التي ترتبت من جراء ذلك هي المزيد من الفقر والبطالة وغياب التعاضد الاجتماعي وعدم الاستقرار السياسي والمزيد من الجرائم وفقدان الامن والتدمير البيئي. وفي الحقيقة، كشفت التجربة التاريخية بوضوح انه لا يمكن بناء مجتمع ديمقراطي في ظروف البؤس والحرمان، فالفقر هو ألد أعداء الديمقراطية، وما من مجتمع في الماضي أو الحاضر أو المستقبل أمكنه ان يحقق الاستقرار في أوضاع التعاسة والعوز. فالديمقراطية في المجتمعات الغربية نجحت ونمت في القرنين الماضيين في ظل نظم اقتصادية ليبرالية وذلك بحكم استفادتها من الظروف الدولية العامة التي أتاحت لمواطنيها العيش في بحبوحة اقتصادية تحققت لها بفعل الحال الاستعمارية تارة، وبفعل الهيمنة على موارد الآخرين تارة اخرى، وبفعل ربط اقتصاديات الآخرين بالشرايين التي تصب في اقتصادها تارة ثالثة. وهو امر يعتقد البعض بإمكان تكراره في ظل العولمة. وهنا لابد من التذكير بحقيقة ان البحوحة الاقتصادية التي شهدتها الدول الغربية ما كان لها ان تحقق إنجازاتها على الصعيد الاجتماعي - وتحقيق النجاح الديمقراطي - لولا دور «حافظ الميزان» الذي قامت به الحكومات في المجتمعات الغربية لضبط المعادلة ما بين الديمقراطية والليبرالية. فمبادئ اقتصاد السوق لم تتمكن خلال القرنين التاسع عشر والعشرين من تطبيق مبدأ البقاء للأصلح بفضل التدخل الحكومي في إطار مفهوم إيجاد دولة الرفاه الاجتماعي، فقد عمدت الحكومات إلى التدخل في السوق بتشكيلة واسعة من البرامج المصممة لتحقيق نوع نسبي من التوازن في دخول الأفراد الاقتصادية ومنع اللامساواة من البروز. ¥ذ قامت الحكومات بإقرار برامج التعليم الإلزامي الممول حكوميا ومنح هبات الأراضي الرخيصة لبناء الجماعات وكذلك فرض مبدأ ضريبة الدخل التصاعدية وتقديم التأمين الصحي والرعاية الصحية المجانية إلى المسنين والفقراء؛ وكذلك وثوب الحكومات إلى السوق ووقوفها إلى جانب الضعفاء ومد يد العون للذين يخسرون فيها. كل هذه الإجراءات وفرت أرضية التعايش ما بين الديمقراطية والليبرالية آنذاك. ولكن منذ وصول الرئيس رونالد ريغان إلى البيت الأبيض مترافقا مع انتخاب مارغريت ثاتشر في بريطانيا بدأت العقيدة الليبرالية الانغلوسكسونية الجديدة تطغى على سياسات الكثير من الحكومات في دول العالم الثالث تحت غطاء شعارات الإصلاح والخصخصة. ونجم عن ذلك استشراس قوى السوق لتركز الثروة في أيدي قلة من الناس، ثم جاءت نهاية الحرب الباردة وغياب البديل الأيديولوجي ليؤدي بدوره إلى انفلات قوى السوق صوب التوحش الرأسمالي والعولمة وكان من الطبيعي أن يخلف ذلك ازدياد متنام في أعداد العاطلين عن العمل وتناقص مداخيل الغالبية العظمى من سكان المعمورة. وألقت السنوات الأخيرة بالملايين في ألمانيا وفرنسا والنمسا والولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وكندا إلى قارعة البطالة. وساهم ذلك في اندفاع شعوب هذه البلدان إلى استهلاك رأسمالها الاجتماعي فازدادت الجرائم واتسع نطاق التطرف والعنصرية وتفاقم تعاطي المخدرات في وقت تدنت فيه المشاركة السياسية وفتر الإقبال على صناديق الانتخابات وعمَّ الفساد والفضائح والرشاوى أوساط رجال الحكم. إذ ان خضوع الديمقراطية لمنطق السوق اخضع المؤسسات السياسية لقيمه ومعاييره فتحول الزعماء وقادة الرأي إلى سماسرة جدد يتاجرون بالدولة ومؤسساتها وانحدرت الأحزاب بالديمقراطية إلى السفح، فيما انحدرت جماعات الضغط بالديمقراطية نحو قيعان سحيقة. فهذه الجماعات التي تجاهر بتمثيلها للمصالح الخاصة وتمتلك تمويلات هائلة تحولت إلى تنين خيالي يلتهم الديمقراطية أو ما تبقى منها. ومثال على ذلك، هو أميركا أعظم الديمقراطيات التي حولت جماعات الضغط فيها المؤسسات السياسية لتجعلها على غرار بورصة الأوراق المالية، فكما هذه الأخيرة تخضع لرأي المستثمرين فإن مناقشات الكونغرس تتحول أكثر فأكثر إلى حرفة عن طريق المعلومات الجوهرية التي توفرها جماعات الضغط الممثلة لمصالح متناقضة. وارتباطا بما تقدم، يعتقد أن العولمة بما تولده من تطورات تكنولوجية تعيد تشكيل المجتمعات وتوجد التقلصات والتوترات فيها. وبسبب حرية الأسواق وما تفرزه من تنافسات حادة فإنها ستؤدي إلى ارتدادات واسعة عن الديمقراطية. فالعجز المستمر عن توفير الرخاء والرفاهية والمساواة يقوض دعائم شرعية الديمقراطية في الكثير من الدول، كما أن تنامي العرقية وتصاعد الأصولية بكل أنواعها ومظاهرها في ظل الأوضاع العالمية الراهنة ستسهم في دفن الميول الديمقراطية وضياع الوعد الديمقراطي للعولمة.
العدد 86 - السبت 30 نوفمبر 2002م الموافق 25 رمضان 1423هـ