ربما يتمنى المرء أن يمارس شئون حياته من دون وجود لمعارضة ما من أي طرف كان، وربما اعتقد بعضنا أن حياته ستكون أفضل فيما لو اختفى معارضوه من الوجود، وربما حاول البعض تفسير وجود من يخالفه الرأي بأنه حسد من الآخرين أو مؤامرة من دولة أجنبية أو حركة سرية إرهابية لا تنوي الخير له، وربما اعتقد من نظر إلى الأمور بهذه النظرة أن هناك عائقا واحدا أمام تقدمه في برامجه، يتمثل في وجود من يعارضه، ولذلك فإن قمع ذلك الطرف المعارض والرأي المشاكس سيحل له كل مشكلاته.
ربما أيضا احتاج بعضهم إلى تفسير أيديولوجي لقمع ذلك الرأس المزعج، ولا يعدم من أراد قمع الطرف الآخر التبرير سواء كان مؤمنا بالله أم شيوعيا أم قوميا أم بلا مبدأ. فبعض من يؤمن بالله يمكنه القول إن الله واحد ولذلك فإن الرأي لابد أن يكون واحدا. وهذا القول عشش في رؤوس عدد لا بأس به من الحركات الدينية المتطرفة، سواء كانت إسلامية أم مسيحية أم يهودية. وعلى رغم أن بعض المسلمين أخذ بهذه الفكرة، فإن الفكر الإسلامي لا يدعم هذا التوجه أبدا. فالوحدانية لله فقط وما دون الله متعدد «إن سعيكم لشتى» (الليل: 4). كما أن الله الواحد «فاضت» رحمته وبركاته ونعمه وخيراته وأصبحت بذلك العطاء فيضا متعددا معبرا عن قدرة الله العظمى في خلقه. وأية محاولة لتمثل الرأي الإلهي الأوحد من قبل أحد من البشر وفرضه على الناس تعتبر تعديا على ذلك الفيض الإلهي.
ثم كانت للشيوعيين محاولتهم في قمع الرأي المعارض. فالشيوعية اعتبرت أن الحزب الشيوعي هو الحزب الوحيد الذي يمثل القوى العاملة، وأن القوى العاملة هي كل الشعب العامل المنتج، وانتهى الأمر إلى اختناق الإنسان بعبرته وقيام أولئك العمال بإسقاط الحزب الحاكم باسمهم، كما حصل في بولندا في الثمانينيات ثم انتشر إلى باقي الدول الشيوعية (ماعدا طبعا الصين وكوريا الشمالية اللتين مازالتا تخنقان عبرة مواطنيهما باسم الحزب الطليعي القيادي الأوحد).
ثم حاول القوميون والزعماء التاريخيون، الذين حشد الجمهور في الشوارع هتافا بأسمائهم في ألمانيا وإيطاليا ومصر وغيرها، تصفية الذين يخالفونهم الرأي لأنهم يكدرون مزاج الجماهير الهاتفة بحياة القادة التاريخيين. وانتهى الأمر إلى مصائب حلت بتلك البلدان على رغم بعض الإنجازات المشهودة لهم.
بعض العسكريين والدكتاتوريين – مثلما حصل في نيجيريا قبل سنوات مضت – حاول القفز على وجود الرأي المعارض وأوجد اثنين من «جماعة الحكم» اللذين لا يتفوهان ببنت شفة إلا بعد أن يحصلا على الفرصة الرسمية، وأسهم في تكوين حزبين مختلفين ظاهريا لامتصاص أي رأي معارض حقيقي. وانتهى الأمر إلى تحويل ثاني أنمى وأقوى بلد إلى بلد إفريقي تمزقه الجرائم وتهرب ثرواته إلى كل مكان من دون حسيب ولا رقيب.
جربت كثير من الحكومات القضاء على الرأي المعارض فملأت السجون وخصصت ثلث موازناتها لأجهزة الأمن والمخابرات وانتهى الأمر إلى ما شاهدناه ونشاهده في كثير من بلدان عالمنا الثالث... «اكتشافات واختراعات» لكنها جميعها غير مفيدة للإنسانية في شيء لأنها جميعا تتحدث عن «اكتشاف» مؤامرات جديدة ضد الحاكم الفاهم العالم. ويبدو أن هذا الفاهم العالم يحتاج دائما إلى من يفهم أكثر ليكتشف له المؤامرات الواحدة تلو الأخرى، وأن هذه المؤامرات التي تتولد باستمرار في أجواء الحكم الدكتاتوري تتطلب امتصاص موازنة الدولة وتحويلها إلى جيوب وبطون الأبطال الأشاوس الذين يديرون أجهزة الأمن المتفوقة في قدراتها الاكتشافية.
التجارب القمعية كلها أدت إلى تبديد ثروات الوطن في ما لا ينفع الحاكم أو البلد، ولم تؤد إلى أي تقدم ملموس مقارنة مع الدول الأخرى التي انتهجت نهجا آخر. ذلك النهج الذي يؤمن بوجود الرأي الآخر وبضرورة الاستفادة من جميع الأفكار والقدرات المتوافرة في البلاد. بل إن بعض الدول خطت خطوات أخرى، وقننت وجود المعارضة وأوجبتها. فالدول المتطورة تؤمن بأن وجود المعارضة ليس فقط مسموحا به، وإنما واجب وجوده، حتى أن بريطانيا تطلب رسميا من الحزب المعارض (الذي حصل على ثاني أعلى أصوات في الانتخابات) تشكيل حكومة ظل، وتخصص لوزراء حكومة الظل مخصصات مالية وإمكانات مادية، وتوفر لهم قنوات مباشرة للاطلاع على ما يدور في دائرة القرار السياسي، كي يتمكن الحزب المعارض ووزراء الظل من أداء دورهم المعارض بصورة مستمرة ومنتظمة.
واستفادت الدول المتقدمة، ومازالت تستفيد، من تقنين الرأي المعارض، إذ أصبحت العملية السياسية غير مكتملة إلا مع وجود تلك التعددية في الآراء. ونحن في البحرين بإمكاننا أن نثبت للجميع أنه لا عيب في وجود رأي معارض، وأنه بسبب وجود هذا الرأي وتقنين المعارضة تستطيع البحرين أن تتقدم وتزدهر ويشعر مواطنوها بالعزة والكرامة، وذلك هو التحدي الأكبر المطروح أمامنا جميعا.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 86 - السبت 30 نوفمبر 2002م الموافق 25 رمضان 1423هـ