رأى الكاتب والمفكر العراقي عبدالجبار الرفاعي، في الدفعة الثانية من حوارٍه مع صحيفة "المدى" عن الحاجة إلى إنسانية إيمانية، أنه "لم يعد المفكر أو المثقف أو أيّ فرد مهما كان صانعَ العالم، ولم تعد حركة التاريخ مُرتَهنة بالأبطال، ولم يعد تغيير المجتمع في عالمنا اليوم متوقفاً على الفكر والثقافة فقط بمعناها القديم، بل إن تطور العلوم والمعارف البشرية وضع معادلةَ التغيير في مسار يواكب ما استجدّ من تطور".
وفيما يأتي نص الحوار:
* في ضوء التحديات المثارة أمام الإسلام (كدين إنساني) وبعد الذي جرى من هيمنة تيارات وتنظيمات الإسلام الجهادي الراديكالي التي قامت بأعمال متوحشة منافية للقيمة الإنسانية، وما أملى ذلك من تساؤلات وفتح باب الاستفسارات والأسئلة المصيرية عن الدين ذاته، ما دوركم كمثقف (ديني) على مستوى إحياء نزعة الأنسنة الإسلامية كمطلب جدّي ملحّ ليس فقط على صعيد توكيد حقيقة أن الاكتراث بالشاغل الإنساني لم يكن يوماً بعيداً عن فضاء التفكير والنقاش العربي والإسلامي، بل أيضاً على صعيد تفعيل دور وحضور المبدأ الإنساني كمبدأ إسلامي جوهري لا بدّ من تفعيله وإعادة الاعتبار إليه عملياً؟
- هناك مبالغات وتهويل ورومانسية في فهم دور الفكر والمفكر، والثقافة والمثقف، خاصة المثقف الديني وتأثيره في عملية التغيير الاجتماعي. وبسبب هذا الفهم الملتبس أصبح المثقفون متهمين أو خونة كما يقول الأديب الايراني جلال آل أحمد، أو المثقفون مناضلون تبعاً لما يراه اليسار، أو المثقفون فدائيون كما يذهب الراديكاليون منهم، أو المثقفون مجاهدون وشهداء كما تتحدث بعض أدبيات الجماعات الدينية.
لم يعد المفكر أو المثقف أو أيّ فرد مهما كان صانعَ العالم، ولم تعد حركة التاريخ مُرتَهنة بالأبطال، ولم يعد تغيير المجتمع في عالمنا اليوم متوقفاً على الفكر والثقافة فقط بمعناها القديم، بل إن تطور العلوم والمعارف البشرية وضع معادلةَ التغيير في مسار يواكب ما استجدّ من تطور.
تكنولوجيا النانو، والهندسة الوراثية، وتكنولوجيا المعلومات والأنترنت والاتصالات، كل يوم تنجز ما لبث الكثير منه حتّى الأمس، أحلاماً وربما خيالاً علمياً. لا أظن أن شخصاً اليوم لم تحدث تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة والأنترنت تأثيراً في كيفية حياته. الأسبوع الماضي كنت في رحلة بريّة من بغداد إلى جنوب العراق، سلكت فيها طريقاً يمر عبر مراعٍ وأراضٍ زراعية، فهالني حضور الهواتف النقالة لدى الرعاة والفلاحين في قرى نائية مهملة مبعثرة على مساحات زراعية شاسعة، حتّى الرعاة والفلاحين الأميين اخترقت حياتَهم وسائلُ الاتصال الحديثة. وطبقاً لما اكتشفه المعلّم هيدغر، فإن دخول أية تقنية جديدة في حياة الانسان تتحوّل تبعاً لها رؤيته للعالم وطبيعة حياته. التقنية ليست أدوات وآلات وأجهزة وأشياء محايدة كما كنا نعتقد، وإنما هي كيفية حضور للكائن البشري في العالم، يحاكي هذا الحضور كيفية هذه التقنية ويتناغم معها.
بموازاة تقنية المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة، هناك تكنولوجيا الهندسة الوراثية التي تعدنا بما لم تعدنا به علوم ومعارف الإنسان من قبل. ذلك أنها تتدخل في الخارطة الوراثية للكائن البشري، وتستطيع أن تجري تعديلاً على الشفرة الوراثية. وفي ذلك ما ينبئ بإمكانية التحول في شيء من الصفات الثابتة للطبيعة البشرية.
أتمنى أن نقرأ كتاب "فيزياء المستحيل" للفيزيائي الأمريكي من أصل ياباني الحائز على جائزة نوبل ميشيو كاكو، وهكذا كتابه المهم الآخر "رؤى مستقبلية: كيف سيغيّر العلم مستقبلنا في القرن الحادي والعشرين" لنفتح نافذة على صورة الغد، وما يعدنا به العلم من انتقال إلى أساليب أخرى في العيش مغايرة لما نحن فيه.
"المثقف الديني" كما أفهمه هو الباحث المستوعب للتراث، والخبير براهن العلوم الانسانية، والمهتم بدراسة الدين وتقديم فهم ونقد لتجلياته في الحياة الشخصية والاجتماعية، وهو فهم لا يتطابق بالضرورة مع كل ما هو موروث. مثل هذا الباحث أعزل لا يحميه أحد عادةً، لأنه لا يعزف ألحان أيّة سلطة سياسية أو دينية، ولا يحظى برعاية أيّة مؤسسة أو جهة اجتماعية أو منظمة حزبية. بل تتحفظ على منجزه وربما تحاربه المؤسسات التقليدية، والجماعات الدينية، والتنظيمات الحزبية، ذلك أن التفسير المختلف الذي ينجزه للظواهر الدينية يستفز الكل، والناس بطبيعتهم يقلقهم ويخيفهم كل جديد ينشد الالتحاق بالعصر ومغادرة الموروث.
رغم أن المثقف الديني لا يمالئ أيّة سلطة، غير أن البروليتاريا الرثّة، وبعض المثقفين المغرمين بشعارات اليسار، والمهرّجين، لا يرضيهم ذلك، فيطالبونه بكل ما يحلمون به ويتمنونه، ويترقبون منه أن يكون بديلاً لمؤسسات الدولة والمجتمع الثقافية والإعلامية والسياسية والاقتصادية، بل يريدون من هذا المثقف أن يحمل بندقيته ويقاتل، مثلما فعل ريجيس دوبريه الذي توجّه إلى بوليفيا ليلتحق بالمناضل الشهير تشي غيفارا، وإلاّ فهو في نظرهم قاعد جبان متهم، وإن كانت جهوده متواصلة في التربية والتعليم والبحث والكتابة والنشر. ولا يعبأون بما يكابده في تأمين رزقه، وحيرته في تأمين الحد الأدنى لأمنه الشخصي ومصير أسرته.
المثقف الديني وكل مثقف حرّ ليس مبشراً أو داعية أو مناضلاً أو فدائياً. إنه باحث مكوّن تكويناً جاداً في تفسير النص الديني، مستوعباً للتراث، ومواكباً للعلوم الانسانية، يعمل على فهم الواقع وتفسير تجليات الدين في حياة الانسان. المثقف الديني ليس مسكوناً بأدلجة الدين، وليس صاحب دعوة تبشيرية. تتلخص مهمته بتفسير العالم، وهو يعرف أن تفسير العالم مقدمة لتغييره، إذ يخفق كل من يحاول تغيير العالم قبل تفسيره.
تتمحور جهود المثقف الديني على تفسير ونقد ما يتفشى في مجتمعاتنا اليوم من قراءة خرافية للنصوص الدينية، كما يعمل على فهم وتفكيك القراءة الفاشية المتوحشة لهذه النصوص.
ويهتم هذا المثقف أيضاً بتكريس الحياة الروحية، ويسعى لبعث وتنمية المواقف الأخلاقية، بوصفها تجربة للحياة نعيشها، وتجربة للحقيقة نتذوقها. ويشرح كيف أن تأثير هذه المواقف متبادل في حياتنا الشخصية، وكيف تمر الأخلاق بدورة إنتاج تكون فيها هي الأثر وهي المؤثّر، فكما ننتج نحن المواقف الأخلاقية ونعيشها ونتذوقها تعيد هي إنتاج شخصياتنا أخلاقياً. الأخلاق نسيج منظومة علائقية ينتج بعضها بعضاً، كل موقف أخلاقي تغتني به شخصياتنا ويثريها وينقلنا إلى مرتبة أسمى في سلم التكامل. وهكذا كلما تسامى الانسان أصبحت بصمة أقوله وأفعاله أخلاقية، وصارت الأخلاق يصنعها وتصنعه، يرفدها وترفده، تصونه ويصونها، تحميه ويحميها.
* يرى كثير من نخب الحداثة الدينية العربية كمحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وعبدالمجيد الشرفي، أن موضوعة "الأنسنة" كستراتيجية نقدية تكرّس كل القيّم التي تعيد الاعتبار للإنسان؛ كالعقلانية، والحرية، والديمقراطية، والمساواة، بعد أن سلبها منه اللاهوت أو السلطة الكهنوتية التي تنطق وتقرّر باسم الإله دائماً على حد تعبيرهم. ما تقييمكم لما سجّلته المدونة النقدية الحداثية العربية من نقد للخطاب الديني الإسلامي التقليدي والمعاصر خاصّة على مستوى انهماكه بالحديث النظري عن أهمية وضرورة التجديد الديني نظرياً، وما سجلته أيضاً تلك المدونة النقدية من تفكيك لمضامينه المعرفية، ومن تحليل لطبيعة العلاقة بين هذا العقل الحداثي وبنية الخطاب الديني، وطموحاته الستراتيجية الأنسنية التي استهدفت (وتستهدف) ترويض جموحه "الديني"، وتفكيك سلطته النسقية، واستبطان مكبوته التخييلي، ومخزونه الرمزي، وفضح تلاعباته الكهنوتية ومراوغاته الإيديولوجية، إذا جاز لنا التعبير؟
- الدين خارج التفكير عند الكثير من الباحثين والدارسين والأدباء والمثقفين في بلادنا. التفكير والتعبير والكتابة الجديدة في قضايا الدين ضريبتها موجعة. مسار المفكر والباحث المهتم ببحث أسئلة الدين واشكاليات المعرفة الدينية اليوم لا يخلو من مغامرة. إنه يجازف لحظة تقديم فهم مختلف في تحليل طبيعة المعرفة الدينية ودراسة تعبيرات الدين في الحياة، لأنه يتوكأ على مناهج وأدوات ليست متداولة لقراءة النص الديني، لا تكرر ما هو شائع وموروث. لا يصح وضع المفكر والباحث في الدين في سلة واحدة مع غيره من المفكرين والأدباء والنقاد والكتّاب المهتمين بحقول أخرى خارج الدين وقضاياه، ممن لا يواجهون مخاطر ومعاناة ومتاعب مثلما يواجهه من يفكر في الدين خارج السياق الموروث.
محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وعبدالمجيد الشرفي وغيرهم، مفكرون تتمحور جهودهم على دراسة تعبيرات الدين في تاريخ الاجتماع الاسلامي، وبيان أنماط الايمان والتجارب الدينية، وحقيقة الوحي وكيفية تشكل النص الديني وتدوينه، وماهية المعرفة الدينية وعلاقتها العضوية بالزمان والمكان وثقافة العصر المنتجة فيه، واستجابة النص لرهانات العصر واستفهاماته.
قدّم هؤلاء المفكرون وتلامذتهم وغيرهم بالعربية سلسلة أبحاث تناولت بالتحليل والنقد مدونات التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلومه والفقه وأصوله وعلم الكلام وأصول الدين والفلسفة والتصوف والسيرة والتاريخ. للمرة الأولى مع هذه الأبحاث تنتقل الدراسات الدينية إلى أفق جديد، يتجاوز دراسة الدين والتراث بأدوات تراثية، ويتوكأ على توظيف معارف وعلوم الانسان والتأويل وفلسفة الدين في دراسة إمكانات حضور المعنى الديني في حياة الانسان اليوم، واكتشاف حدود المقدس والدنيوي.
بغض النظر عن كفاءة ونجاح كل هذه الجهود، لكنها محاولات جادة لتدشين مسار بديل للدراسات الدينية يسعى لإخراجها من المسارات التكرارية الدائرية المسدودة، عبر ردم الفجوة بين علوم ومعارف الدين وعلوم ومعارف الانسان المختلفة، بوصف الأخيرة تدرس الظواهر الدينية وتجليات النص الديني في الحياة، وهي ظواهر بشرية يمكن فهمها في إطار المعطيات المتنوعة لعلوم ومعارف الانسان.
المؤسف أن هناك الكثير من الارتياب والتشكيك بجدوى هذا النوع من الدراسات بالعربية، وتعرضها وأصحابها لأحكام قدحية قاسية، تشكك في مشروعيتها، وقد تصل حد التكفير والتفسيق والتبديع أحياناً. مع أن هذا الاتجاه في الدراسات الدينية ظهر في الغرب منذ عدة قرون. وسبقنا اليه مفكرون دينيون في الهند وباكستان وايران وغيرها من بلاد الاسلام غير العربية.
في ايران مثلاً، تكتسب جهود المفكر الديني أهميةً فائقة لدى جماعة من رجال الدين في الحوزة، ويصغي اليها الكثير من الأكاديميين وتلامذة الجامعات والنخب في البلاد، وتحدث بعض الآراء جدلاً ونقاشاً واسعاً، لا يتوقف عند الورق بل يتخطاه لمنابر الخطابة وحلقات الدرس الحوزوي والفضاء الثقافي العام. ولا يعتقد معظم النخب أن مثل هذه الآراء تنقض تدينهم أو تمحق إيمانهم. المفكر الديني الايراني كائن روحاني يحرص على تكريس حياته عبر أداء الطقوس، لذلك يشعر من يتضامن مع طروحاته أنه مؤمن. مع إنْ رؤيته للعالم لا تتطابق مع ماهو شائع، لكنه لا يختلف في معظم مظاهر سلوكه عن النمط العام لتدين الناس.
تكمن أزمة المفكر والباحث الديني في البلاد العربية في غربته عن المجتمع، وغربة المجتمع عنه. لا يتوجس الناس من تفكيره وآرائه فقط، بل يشعرون أنه منقطع عنهم في كل شيء في حياته وسلوكه. إن جهود هؤلاء المفكرين والباحثين في ديارنا مازالت لم تعثر على تربتها المناسبة، ولعلها لا تجد مثل هذه التربة مادامت بعيدة عن الحواضر والحوزات والمدارس الدينية. الفضاء الديني العام كان ومازال مُحتَكراً لرجال الدين والخطباء وأئمة الجمعة والجماعة، وكتّاب وشباب الجماعات الدينية، بينما المفكر المستنير في بلادنا يفكر ويكتب ويتحدث خارج هذا الفضاء، لا يصغي اليه أحد، مثلما لا يصغي هو لأحد.
أشرت أكثر من مرة إلى أن تحديث المؤسسة الدينية لا ينجز وعوده مالم ينبثق داخل هذه المؤسسة، تحديث الحوزة لا ينجز وعوده مالم ينبثق داخل الحوزة، تحديث الأزهر لا ينجز وعوده مالم ينبثق داخل الأزهر، تحديث المسجد لا ينجز وعوده مالم ينبثق داخل المسجد. تحديث الكنيسة لم ينجز وعوده إلاّ بعد أن انبثق داخل الكنيسة، تحديث الفاتيكان لم ينجز وعوده إلاّ بعد أن انبثق داخل الفاتيكان.
* في ظل أزمة المعنى (فراغ المعنى الوجودي) التي تهيمن على المجتمعات الحديثة، كيف يمكن لقيم الدين الإنسانية المعنوية (وبأية طريقة) الإسهام في التخفيف من آلام الناس وضغوطاتهم الحياتية، والعمل على إنتاج ونشر الاستقرار الفردي والاجتماعي، بعيداً عن مجالات الفقه التقليدي، وتصورات الإسلام المتعددة المختلفة والمتضاربة الأفهام والاجتهادات والشروحات والبيانات والتفسيرات؟ أين تكمن حاجة الفرد البشري للدين، في إشباع الروح، في الشوق للمعرفة والتوق للحكمة، في أنسنة القيم الدينية، في إثراء الوجود الخاص أولاً والعام ثانياً؟
- الانسان كائن مسكون باكتشاف وتفسير كل ما حوله من عوالم، إذ أن كل ما لا يفسر ويبرر يجعل هذا الكائن غارقاً بأسئلة تثيرها افتراضات قلقة وأوهام مخيفة. الدين شبكة دلالات تمنح الانسان قدرة على العيش في عالم يستطيع فهمه وتفسيره. صحيح أن الكثير من تفسيرات وتبريرات الدين نَسَخها اتساعُ مجالات العلم، ومحتها ممحاة تطور المعارف البشرية، والآفاق الجديدة للعقل الحديث، لكني أتحدث هنا عمّا هو خارج هذه المجالات والآفاق من مديات تلح على العلماء على الدوام أن يفتشوا عنها، ويقدموا افتراضات متنوعة في فهمها. فمهما بلغت فتوحات العلم واتسعت مدارات العقل، فإن العقل ذاته يدلل على أنها تظل محدودة مهما امتد الزمان، لذلك يبحث الانسان بموازاة ذلك عما يمنحه معنى جديداً يفسر به ما لا يفسره العلم في حياته. وأعني بذلك أنه ليس هناك كائن بشري لا تلح عليه أسئلة حائرة عن معنى وجوده في هذا العالم، وعن الموت الذي يباغته وتتعطل فيه حياته، ويتوقف فيه كل شيء فيها، والمصير الذي لا يعرف عنه شيئاً، وما يتفشى في العالم الذي يعيش فيه من شرور مريعة، وغير ذلك من أسئلة تتفرع عن هذه الأسئلة وتحيل اليها. لن تغيب هذه الأسئلة أبداً مادام هناك إنسان يفكّر في العالم.
فما يتصل بسؤال الموت مثلاً فإن تقدم العلم لا يستطيع تعطيله، وإن استطاع تأجيله.كل انسان يشعر أنه يقع في أحضان الموت، وإن فعل كل شيء لكن لا يستطيع طرد كابوس الموت. الموت هو التحدي الأعظم للكائن البشري، استجابات الكائن لهذا التحدي وإن كانت متنوعة لكنها كلها لا تكفّ عن التوق للخلود.كل انسان يواجه الموت بمنجزه، الفلاح يواجه الموت بمحاصيله، العامل بعمله، الرسام بلوحاته، الشاعر بقصائده، المعمار بعمارته، المكتشف باكتشافه.كل جماعة بشرية يتضامن أفرادها وتنتج سردياتها ومتخيلها التاريخي في سياق مواجهة الموت.
تظهر تعبيرات مواجهة الموت والتوق للخلود في حياة الانسان في كل من: الدين الذي تتمدد به الحياة ولا تزول أبداً حسب مفهوم المتدين، والفن الذي يجعل الذاكرة حيّة على الدوام، والعلم الذي يصيّر وجود المرء أغنى وأقوى، والكتابة التي هي ضرب من بقاء واستمرارية حضور الكاتب وديمومته، والامومة والأبوة التي يتسع فيها الوجود الشخصي للغد عبر الأبناء، واكتناز المال الذي يشعر معه المرء بالاستغناء وعدم الاحتياج للغير، والسلطة التي تمنح من يمتلكها شعوراً يتخيل معه أنه يقبض على حياة أوسع من حياته الشخصية، بوصفه يمتلك قدرةً من شأنها أن تجعله يتحكم بمصير حياة الغير في مملكته، فيضمّها إلى حياته، لأنه يهب الغير البقاء أو يحكم عليه بالفناء.كل ذلك وغيره يقوم به الانسان ليهرب من الموت، ويتخلص من الفناء، ويظفر بالأبدية.
يضع الدين بين يدي الانسان منظومة تفسير تقدم له إجابات عن كل ما لا يجيب عنه العلم في حياته، يجيب الدين عن الأسئلة الوجودية الكبرى، كسؤال معنى الحياة، والموت، والمصير. الدين تمثل رمزي للوجود، ونمط حضور في العالم، يتشكل في فضائه مفهومُ الانسان للحياة، وأفق رؤيته، وتتكيف تبعاً له صلاته بالأشياء، وأنماط علاقاته الاجتماعية بالأشخاص.كما يقدّم الدين تبريراً للحياة، وإن كان الدين لا ينفرد بذلك، غير أنه ينفرد في إنتاج رؤية للانسان الديني يعيش معها في عالم مقدس بموازاة عالمه الدنيوي.كذلك يقدّم الدين تفسيراً وتبريراً ينفرد فيه للموت، بوصف الموت ليس فناء، وانما تحوّلاً في طبيعة الحياة، وتأبيداً لها بنحو يجعل تحدي الموت مستساغاً. وكأن الانسان الديني يشعر أنه يهاجر من واقعه المرّ ليسكن عالماً طهراً لم تدنسه شرور وخطايا البشر، ثم يدنو ذلك العالم القدسي ليلتحم بالواقع ويتسامى به، بالشكل الذي ينقذ الانسان الديني من الكثير من آلام الحياة ومواجعها، إذ يمنحه تعويضاً مؤجلاً عن كل آلام حياته، ويمنحه قدرة اضافية تخفف من وطأة الألم وضراوته، بنحو يصبح هذا الانسان قادراً على تحمله مهما كان. كذلك يحرص الدين على منح الكائن البشري شيئاً من الألفة والانسجام مع العالم، يستطيع معها هذا الكائن أن يحتمي من الاغتراب الوجودي والهشاشة والضياع.
أتمنى ألا يفهم كلامي خطأ، من اني أقصد ان حدود الدين تقتصر على المجال الفردي، ذلك أن كل دين بل كل معتقد شخصي له أثر مجتمعي عابر لأثره الفردي. المجتمع هو مجموع أفراده، وكل حياة دينية أصيلة تنتج تحولاً روحياً وأخلاقياً في شخصية الفرد، سيجد هذا التحول صداه المباشر في حياة المجتمع. نعم لا يمكنني القبول بأن نضحي بضمير الفرد، ونبدّد حياته الخاصة، وننحر كرامته وحريته وحقوقه لأجل الجماعة. أعلم أنها معادلة صعبة جداً في عالمنا، لكن لا يمكن أبداً قبول كل ما ينتهي إلى عبودية الفرد للمجتمع ومحو الذات الشخصية في الجماعة.