أبي الذي كان يلتقط ندف القطن في الريف، وتلتقط أذنه موشحات أبوالجود محمد منذر سرميني وأغاني أم كلثوم التي لا أحبها، ويلتقط قلبه هواء جبل بلبل الحلبي الذي يسميه هواء الفردوس - رفض أن يلتقطنا ويرمينا في جوالين ويهرب بنا إلى الأراضي التي لا يزورها الموت كل صباح كما يحدث في قريتنا، لا زلت أذكر الليلة التي كان يزجر فيها جارنا الشاب عبدالرحمن الذي فقد والده ووالدته وأخته محاولاً إثناءه عن فكرة الرحيل، قال كلامًا كثيرًا له لا أذكر منه غير «العربي لا يهرب، العربي يموت واقفًا، العربي يموت في أرضه ولو فقد كل شيء، قبر العربي هو بيته وحقله، لا يحق لشجرة أكل جسد العربي إلا النخلة العربية والزيتون العربي»، قال عبدالرحمن كلامًا كثيرًا هو الآخر لا أذكر منه غير «قل هذا لنفسك عندما تفقد أحبابك»، أتذكر أيضًا صفعة أبي له وعبارته التي جز فيها على أسنانه «لا أهرب، لا أتنفس إلا الهواء العربي ولو فقدت كل شيء، لا أخون أسلافي، لا أدفن إلا معهم». كان أبي بارًا بعبارته هذه لأربع سنوات، على رغم هذا الصاروخ الأحمر الذي التهم بقراتنا السنة الماضية، ومن هذا الصاروخ الأسود الذي التهم كلبتنا التي كانت تلعب في فناء بيت عبدالرحمن المهجور، لم أعرف أبدًا السبب الذي يجعل الصواريخ تحب النوم في البيوت المهجورة. كان أبي بارًا بعبارته، ولكن لما عاد ذات يوم ووجد البط يأكل بقايا الملفوف الذي تناثر من معدة أمي التي التهمها صاروخ برتقالي فاقع كلون برتقال الشجرة التي زرعتها جدتي الطيبة قبل أن تموت، ألبسني وأختي الصغيرة كشامير ثقيلة وقال: «إلى أرض الهواء الحامض؛ فأن تتنفسا أي هواء خير لديّ من ألا تتنفسا على الإطلاق».
مشينا حتى ماتت أحذيتنا، مشينا حتى نام التعب في أقدامنا وركبنا وأكتافنا، مشينا حتى عندما قال الليل للنهار: « قف، هذا وقتي». مشينا حتى عندما صفع الثلج عظامنا، مشينا حتى رأينا جبالاً خضراء اللون كلون عيني أختي الصغيرة. عبرنا البحر الصغير الذي شرب أختي الصغيرة، على رغم أني كنت أمسك يدها بقوة. قابلتنا أسلاك شائكة باردة كآخر ليالي كانون الأول، وترصّد بنا آخرون يلعنوننا ويقولون أشياء لا أفهمها عن وحشيتنا وخطرنا، الشيء الوحيد الذي فهمته هو تلك الرصاصة التي استقرت في جبهة أبي من الجندي الغاضب الذي يقولون إنه يمثل سيادة دولة من دول الهواء الحامض».
مبدع حقيقي