يلاحظ المتابع ان كل الدلائل والمؤشرات تعطي انطباعا بأن قضية المثقف الإصلاحي الإيراني هاشم آغا جاري في طريقها إلى الحل ـ طبعا بفضل تدخل مرشد الجمهورية علي خامنئي.
إلا أن إنقاذ رأس آغا جاري على أهميته ليس نهاية المطاف، بل هو فصل من سلسلة فصول سابقة وفصول لاحقة ستلي قضية آغا جاري في مسلسل التباين بين التيارين الإصلاحي والمحافظ في المؤسسة الإيرانية.
فقضية آغا جاري وإنْ بدت في هيئة مثقف «تطاول» على رجال الدين وطالب «بتجديد الإسلام» و«عدم الاتباع بطريقة عمياء»، فهي اعمق من ذلك وأبعد من طروحات هذا المثقف أو ذاك، لأنها ستتكرر لاحقا وبغض النظر عن الأشخاص، ما يعني انها قضية لها تاريخ ولها سيرورة ولها مآل أو خاتمة في نهاية المطاف، إذ أن الحسم لابد منه بين التيارات المتباينة في المؤسسة الدينية/ السياسية الإيرانية.
بهذا المعنى فإن قضية آغا جاري بقدر ما هي مسألة فردية فإنها في الوقت نفسه قضية تعكس التنافر والتباين بين أجنحة السلطة في إيران، كما تعكس مقدار استعراض القوة والنفوذ لدى كل تيار من هذه التيارات.
وهذا ما يبدو في حكم الإعدام الصادر بحق آغا جاري من قبل المؤسسة القضائية وهي محسوبة على التيار المحافظ. هذا الحكم الذي يُقصد منه إيصال رسالة إلى التيار الإصلاحي عبر أحد رموزه الثقافية، بحيث يمكن ان تصل المواجهة أقصاها بين التيارين، يعكس مواجهة سياسية.
في المقابل فإن التيار الإصلاحي يحاول جاهدا الحد من سطوة التيار المحافظ، تارة عن طريق شخصياته المثقفة، وتارة عن طريق رموزه السياسية أو الدينية. لكن سرعان ما يبرز الصراع على السطح في استعراض للقوة، ليظهر التيار المحافظ انه مازال ممسكا بمفاصل الدولة ومعظم المؤسسات الفاعلة في إيران.
أما التيار الإصلاحي ومع الأخذ في الاعتبار التعاطف الجماهيري/ الشعبي معه انطلاقا من كونه يمثل آفاق المستقبل خصوصا بالنسبة إلى الشبيبة الإيرانية والفئات المنفتحة والليبرالية، فإنه لا يتمتع بالقوة نفسها في مفاصل السلطة وعلى رغم انتماء رئيس الجمهورية محمد خاتمي إلى هذا التيار، هذا فضلا عن الرموز الثقافية والسياسية المنفتحة التي ترفده.
ولأن موازين القوى بين التيارين هي لصالح صقور الثورة أو المحافظين إذا جاز التعبير وليست للحمائم أو إصلاحيي الثورة فإن موضوع الصراع سيظل بين كر وفر حتى يُحسم الوضع وبشكل نهائي لصالح أحد التيارين.
يبقى ان نشير أخيرا إلى ان قضية آغا جاري ما هي إلا شكل من أشكال المواجهة بين هذين التيارين العريضين وفي حال تأزمت الأمور ووصلت إلى حد المواجهة التي تنذر بالخراب والدمار، سرعان ما يتدخل مرشد الثورة في اعتباره المحور الذي يلتقي لديه المحافظون والإصلاحيون وينشدون وده، فيضع حدا ولو مؤقتا لوقف هذه المواجهة الصريحة تارة والضمنية تارة أخرى.
فمرشد الثورة (الخامنئي) في مطالبته إلغاء حكم الإعدام يهدف إلى إيصال رسالة إلى المحافظين مفادها انكم ذهبتم بعيدا أكثر مما ينبغي، وفي الوقت نفسه يود إيصال رسالة أخرى للإصلاحيين انكم ربما تجاوزتم الخطوط الحمراء في دعواتكم سواء جاءت من مثقفين أو من سياسيين. ولابد من احترام الثوابت الإيرانية التي كرستها الثورة منذ انطلاقتها في العام 1979. كما انه يهدف أيضا تبليغ رسالة إلى الأطراف من دون استثناء مغزاها انه مهما علت الأصوات فيما بين المتشددين والإصلاحيين فإنه يظل الفيصل والحكم فيما بينها وصاحب الكلمة العليا في تحديد ما ينبغي وما لا ينبغي في شئون السياسة الداخلية، وأيضا شئون السياسة الخارجية وعلاقات إيران الدولية وخصوصا الولايات المتحدة.
إذا قضية آغا جاري ما هي إلا واجهة لواقع أعمق مما تبدو عليه الأمور لأول وهلة في إيران، واجهة لصراع تخترقه السياسة من أوله إلى آخره، إذ يبرز إلى السطح بأشكال متباينة، أما آغا جاري الشخص فهو ربما يكون أحد ضحاياه ولو لم يكن آغا جاري لجيئ بشخص آخر من دون اعتبار للأسماء، لأن المهم هو جوهر التباين والصراع لا فيمن يتجلى وكيف يظهر أو من يكون ضحيته.
على هذا الأساس فإن القضية فيما بين التيارين لن تنتهي عند آغا جاري، بل ستظل مفتوحة حتى اشعار آخر، أما آغا جاري فهو أحد المشاهد في هذه السلسلة السياسية الطويلة في إيران منذ أكثر من عقد من الزمان
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 85 - الجمعة 29 نوفمبر 2002م الموافق 24 رمضان 1423هـ