لا نبالغ إذا قلنا ان شهر رمضان يشكل إحدى الآليات الفاعلة لاستمرار التقاليد والعبادات الدينية. إذ بمجرد حلوله يولد لدى الأفراد والجماعات إحساسا قويا بالانتماء، ويتمكن إلى حد كبير من تغيير نمط الحياة اليومية في اتجاه يعزز القيم العائلية وينمي روح الترابط والتوحد. لهذا يصبح من الطبيعي أن ترتفع نسبة التدين خلال هذا الشهر بشكل يكاد أن يعيد التوازنات الذاتية والجماعية، من دون أن يلغي ذلك مظاهر الفوضى الاجتماعية التي أصابت المجتمعات العربية والإسلامية منذ فترة طويلة. في هذا السياق تشهد الحياة العامة في تونس عودة لافتة للنظر لكل ما هو مرتبط بالتدين، ما أثار أسئلة بعضها ذو دافع سوسيولوجي أو ثقافي، وبعضها ينطلق من اعتبارات أمنية أو سياسية.
عندما تجاوزت الحركة الإسلامية التونسية عتبة التعبيرات الأخلاقية والثقافية، وتحولت إلى جسم متسع يعبر عن تطلعات سياسية مباشرة، ويهدد موازين القوى والنمط الاجتماعي برمته، أخذت السلطة ومختلف الأطراف المعادية للإسلام السياسي تدخل منذ أواسط السبعينات في اشتباكات مختلفة مع هذه الظاهرة المعقدة والجديدة. وبعد سلسلة من المواجهات، جاءت المحطة الأخيرة مع مطلع التسعينات لينتقل الصراع من مستواه السياسي والأيديولوجي، ويكتسب صبغة شمولية بهدف اقتلاع الظاهرة من جذورها.
راجت يومها معلومات عن وجود خطة تحت عنوان «تجفيف المنابع»، خلط أصحابها - لاعتبارات كثيرة - بين مظاهر التدين وجذور «الإسلام السياسي». وذهب ضحية ذلك الخلط عدد واسع من الأبرياء، حين أصبح الشاب مشكوكا فيه لمجرد أدائه صلاة الفجر في المساجد، أو امتلاكه لكتاب ديني، أو ارتداء فتاة الحجاب الذي يوصف في تونس منذ الثمانينات بكونه «زيّا طائفيا». وأتت هذه السياسة أكلها طيلة التسعينات، فهي لم تنجح فقط في تفكيك هياكل حركة النهضة وإلغاء أي وجود مادي للإسلاميين، وإنما تمكنت أيضا من التحكم في الكثير من مظاهر التدين.
ثلاثة عوامل للتفسير
منذ أكثر من سنة ونصف، حدث تغير واضح في سلوك آلاف الشبان والفتيات الذين كانوا يتهمون عادة بالميوعة والتسيب الأخلاقي وعدم الاهتمام بالشأن العام. تزايد الإقبال على المساجد التي غصت بروادها خصوصا أيام الجمعة وأثناء صلاة التراويح، وعادت ظاهر الحجاب لتطفو على السطح الاجتماعي من جديد داخل المجتمعات والمعاهد الثانوية والفضاءات العمومية. كما عادت رغبة الكثير من التونسيين في سماع المواعظ وتبادل المعلومات والآراء عن المسائل الدينية. حدث ذلك في غياب تنظيمات دينية مهيكلة يمكن اتهامها بالوقوف وراء ذلك وتجيير المشاعر الدينية لصالح أهدافها السياسية. لهذا تعددت التساؤلات والتأويلات عن أسباب نشوء هذه الظاهرة التي تمكنت من اختراق كل الحواجز.
ثلاثة عوامل على الأقل يمكن أن تفسر العودة القوية للتدين خصوصا في الأوساط الشبابية:
أولا: المناخ الدولي الجديد الذي اتسم - خصوصا بعد 11 سبتمبر/أيلول - بالتشنج السياسي والثقافي والديني بسبب الحملة الأميركية ضد الإرهاب. وهي حملة اختلطت في طياتها المفاهيم والأهداف والمقاصد مما أشعر المسلمين في كل مكان بأن انتماءهم الديني والثقافي أصبح مستهدفا. تلك الرجة وما تلاها من تداعيات عسكرية وإجراءات أمنية تمييزية وتصريحات غبية أو مقصودة، غذت بشكل متصاعد مشاعر الاحتماء بالهوية لدى الأفراد والشعوب، ودفعت آلاف الشباب إلى البحث عن الجذور والاحتواء بنوع من الانتماء الديني والثقافي المصحوب بمشاعر مناهضة لسياسات الولايات المتحدة خصوصا تجاه العراق وفلسطين والمنطقة برمتها.
ثانيا: تزايد دور الفضائيات العربية في شد اهتمام المشاهدين في تونس. أصبحت «الجزيرة» و«أبوظبي» و«المنار» في مقدمة القنوات المؤثرة في الرأي العام التونسي، كما تمكنت قناتا «دريم» و«اقرأ» من أن تستقطبا في الأشهر الأخيرة جزءا مهما من الجمهور الشبابي الذي لا يجد في التلفزيون المحلي ما يلبي الكثير من رغباته. في هذا السياق نجحت بعض البرامج الدينية في أن تشد الاهتمام، وأصبح للداعية المصري الشاب عمرو خالد مشاهدون ومشاهدات كثر خلال الفترة الأخيرة، يتابعون بانتظام حلقاته التلفزيونية التي غزت أكثر من قناة فضائية. إذ للمرة الأولى يتشكل الوعي الديني في تونس من خارج حدود الوطن.
ثالثا: وجود فقر محلي متفاقم في مجال الثقافة الدينية، إلى جانب انعدام الحوار المفتوح والحر حول المسائل ذات العلاقة بالفكر الإسلامي. فالمعركة الأمنية والسياسية التي دارت في مطلع التسعينات لم تتأسس في ضوء تداعياتها سياسة دينية بناءة تعمل من أجل نشر وعي جديد. لا يعني ذلك أن الجهات المسئولة عن هذا القطاع الحيوي - مثل وزارة الشئون الدينية والمجلس الإسلامي الأعلى ومفتي ديار الجمهورية - توقفت عن بذل الجهود لأداء مهماتها التقليدية كبناء المساجد، وتكوين الوعاظ، وتنظيم مواسم الحج، ومتابعة حلول الأشهر القمرية، وعقد الندوات والدروس الدينية، وتنظيم المسابقات القرآنية، ولكنها جهود لا تستجيب لحاجيات المتدينين، ولا ترتكز على خطاب ديني قادر على تجديد الوعي وشد اهتمام المؤمنين وفي مقدمتهم الشباب، في مرحلة تفاقمت فيها الجريمة وتعددت خلالها مظاهر التأزم الثقافي والصراع الحضاري على الصعيدين المحلي والعالمي. يضاف إلى ذلك التسييس المفرط للمساجد وجعل الدين في خدمة الدولة، وهي ظاهرة انتقدها حتى العلمانيون الذين رأوا فيها تكرارا للخطأ الذي ارتكبه الإسلاميون من قبل.
ظاهرة جديدة تبحث عن فهم أعمق
إن الموجة الجديدة للتدين تختلف عن سابقتها من جوانب متعددة. فهذه عفوية، غير موجهة أو منظمة، وتشمل كل فئات المجتمع بما في ذلك قسم من الهامشيين، هي أقرب لرد الفعل الاجتماعي، يغلب عليها الطابع الأخلاقي، ولا تملك أفقا سياسيا واضحا أو الفئات الثرية. كما أن الثقافة الدينية المتداولة في صفوف المتدينين الجدد تبدو ضعيفة إلى حد السطحية، غير قادرة على مواجهة التحديات الجديدة، ويجهل أصحابها ما حدث على المستويين المحلي والإسلامي من تحولات وتراكمات. فالمتدينون الجدد مادة خام قابلة للتشكل في أي اتجاه، خصوصا إذا تمت الإساءة في فهم الظاهرة، أو وقع سوء استخدامها. ولعل هذا هو الذي بدأ يقلق الجهات الرسمية التي تحاول متابعة الظاهرة عن قرب ومن دون أن تصطدم بها. فعلى رغم محاولات التصدي من جديد للمتحجبات في بعض الجامعات وعدد من المعاهد الثانوية، وإجراء التحريات الأمنية مع عدد من الشباب الذي يرتادون المساجد، فإن تلك المحاولات بقيت إلى حد الآن انتقائية ولم تتحول إلى خيار أمني شامل. فالسلطات تخشى أن يفسر ذلك بكونه اعتداء على الحق في الاعتقاد، فتتجدد الحملة على تونس. وفي هذا السياق أصدرت «منظمات حقوق الإنسان» بيانات أدانت منع بعض الطالبات ومدرسات التعليم الثانوي المتحجبات من دخول الجامعات أو مزاولة الوظيفة واعتبرت ذلك مسا مباشرا بالحرية الشخصية لهؤلاء المواطنات. إن الموجة الجديدة للتدين تحمل في طياتها تطلعات تتجاوز الإطار التونسي، ولا تخضع للتفسيرات السياسية والأمنية الضيقة. إنها جزء من تحولات هيكلية مرتبطة بالفرز الاجتماعي الجديد الذي تولده آليات العولمة، وبالأزمة السياسية والثقافية التي تزيده الرغبة الأميركية الجامحة في إخضاع العالم بقوة السلاح ودعم الظلم والتمييز بين الشعوب والثقافات. لهذا ستبقى المعالجات الأمنية للظواهر الحضارية محدودة الأثر وغير مدركة بأن الأرض تدور
العدد 85 - الجمعة 29 نوفمبر 2002م الموافق 24 رمضان 1423هـ