إذا تأكدت صحة البيانات التي صدرت عن جهات فلسطينية تعلن تبنيها للعملية التي وقعت في فندق كيني وتلتها محاولة إطلاق صاروخ محمول ضد طائرة مدنية إسرائيلية مقلعة من مطار ممباسا فإن الأمر يشير إلى تحولات جديدة في الخط البياني للمواجهة العامة مع «إسرائيل» وتحديدا حكومة اريل شارون المتطرفة.
هذا النوع من العمليات كان محط نقاش سابق وتعرض لكثير من النقد خصوصا من الفصائل الفلسطينية المركزية وتحديدا «حركة فتح». في السابق كان هذا النوع من الهجمات تقوده فصائل فلسطينية صغيرة ومشتتة لا تتمتع بحجم سياسي كبير وليس لها أي دور خاص أو مميز في وسط الشعب الفلسطيني. ومنذ وقت طويل أدانت «حركة فتح» هذه التوجهات كلها ووجدت فيها مجرد «أسهم نارية» تثير الانتباه الإعلامي وتنال العداء من مختلف الجهات ولا تعطي للشعب الفلسطيني أي مكسب لا على المستوى الدولي ولا على المستوى السياسي.
كتب الكثير عن هذا النوع من العمليات وتم نقده مرارا من فصائل فلسطينية كبيرة ومركزية لأنه أولا يشوه سمعة الشعب الفلسطيني ونضاله ولأنه ثانيا لا يحقق أي مكسب باستثناء الضجيج ولفت الأنظار إلى فصائل صغيرة ومعزولة ولا تتمتع بأية قوة أو شعبية في الوسط الفلسطيني.
كان رد الفصائل على الانتقادات الصادرة عن «حركة فتح» وأنصارها تأكيد «عالمية» المواجهة وأن التشتت الفلسطيني خارج أرض فلسطين عطل إمكانات النضال في الداخل وأغلق باب العودة ومنع كل مجالات المواجهة بين الشعب ودولة الاحتلال. تذرعت الفصائل الفلسطينية الصغيرة والهامشية بعزلتها وعزلة الشعب وتشتته إلى دول الجوار ومحيط فلسطين لتبرير نشاطها الخارجي (خطف طائرات، هجمات على مطاعم وفنادق ومحطات ركاب في عواصم أوروبية وإفريقية وآسيوية) الذي كانت ترى فيه مجرد كسر للطوق المضروب حول قضية فلسطين وتذكيرالعالم بالجريمة والمأساة المسكوت عنها. استمر النقاش طويلا حتى اقتنع معظم الفصائل المعزولة والصغيرة بأن مضار تلك العمليات أكثر من منافعها وبأن مجالات التحرك ضد الاحتلال مفتوحة على أكثر من صعيد وهناك الكثير من الأبواب يمكن الدخول منها غير مطارات العالم وفنادقه.
آنذاك كان الشعب الفلسطيني في الداخل مطوقا من الجهات كلها ودولة الاحتلال تحجزه وتمنعه من التحرك. وبسبب السيطرة الكلية للدولة الاستيطانية اقتصر دور شعب الداخل على المساندة الطفيفة. فالقرار الفلسطيني آنذاك كان في الخارج والسلطة كانت تستمد قوتها من المخيمات الموزعة بالعشرات في لبنان وسورية والأردن.
بعد الخروج الفلسطيني من بيروت (1982) انتبهت القيادة إلى أهمية «الداخل» فبدأت تركز نشاطها على العمل المدني والمواجهة بين قوات الاحتلال وشعب أعزل من السلاح فكانت الانتفاضة الأولى التي اندلعت واستمرت واستمرت ولم تتوقف إلا بعد توقيع «اتفاق أوسلو» الذي كتب بصيغة غامضة. وعلى رغم عدم وضوح بنود «أوسلو» واحتمال تفسيرها على أكثر من وجه شكل الاتفاق خطوة سياسية مهمة إذ نقل القيادة الفلسطينية من الخارج إلى الداخل ضمن برنامج يمتد إلى عشر سنوات وعدت أميركا أنها ستعطي الشعب خلاله دولة مستقلة في الضفة والقطاع عاصمتها القدس.
هكذا فهمت منظمة التحرير الاتفاق وهذا لم تفهمه القيادة الصهيونية على أشكالها وألوانها. وتطور سوء الفهم واختلاف التفسير إلى اندلاع الانتفاضة الثانية بعد أقل من عشر سنوات على توقف الأولى.
الانتفاضة الثانية اختلفت شروطها وظروفها ووسائلها وأدواتها عن الأولى. فهي مدنية (شعبية) وعسكرية (مواجهات مختلفة الأنواع) وهي سياسية دفاعية واستراتيجية هجومية تريد كسر الاحتلال وتحقيق الأهداف بشتى الوسائل.
الرد الإسرائيلي اختلف أيضا. في الانتفاضة الأولى كانت المواجهات سياسية وأحيانا تحصل اشتباكات عسكرية. في الثانية طغى الجانب العسكري على السياسي ولجأت «إسرائيل» إلى العنف التدميري المطلق والقتل العشوائي والاجتياح المتكرر للقرى والمدن، والسفك المجاني لدماء الأطفال والأبرياء بغطاء أميركي ودعم لا سابق له من قبل إدارة جورج بوش.
والسؤال بعد عمليات الخارج في كينيا: هل عاد الشعب الفلسطيني مجددا إلى العزلة واليأس؟ وهل بدأت الفصائل الصغيرة تلجأ إلى الأسلوب السابق الذي انتقدته وتجاوزته بعد أن شعرت بأن الطوق الإسرائيلي وصل إلى حد لا يطاق؟ الجواب مخيف سواء من الجهة الإسرائيلية أو الجهة الفلسطينية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 85 - الجمعة 29 نوفمبر 2002م الموافق 24 رمضان 1423هـ