تمتاز الدكتاتورية عن الديمقراطية بتنميط الحياة العامة، إذ يبدو كل شيء هادئا، وكل شيء لامعا وملمعا، وكل شيء يسير على أفضل ما يكون، وكل مسئول هو أفضل خلق الله منذ آدم حتى اليوم وربما غدا، وكل برنامج حكومي ناجح مئة في المئة، وكل الناس موافقون ومحبون ومخلصون للمسئول، والمسئول «يسهر» على راحة المواطنين، ولولا هذا المسئول لما كانت الحياة سعيدة وجميلة، وان الحل الوحيد والأفضل هو ما هو متوافر على الصحافة الحكومية، وان الحياة المتوفرة أفضل حياة في الدنيا لا يشوبها أي تعكير ولا تسمع فيها أي صراخ أو اعتراض أو امتعاض... إلخ.
هذه القوالب الجاهزة إنما هي مظاهر قشرية، وكل شخص - بما فيهم المسئول - يعلم ان خلف الابتسامات تكمن تعاسات، وخلف الهدوء تمتلئ السجون والمقابر، وخلف الكلام الجميل ينتشر الشتم والتهكم، وخلف التطبيل والتزمير تكمن الحركات السرية، وخلف اللمعان والتلميع تكمن الأوجه القبيحة المضادة والنقيضة، وخلف السلم والأمان يكمن الارهاب والعدوان، وخلف المحبة الظاهرية تكمن البغضاء والتحاسد والتآمر...
الديمقراطية تختلف عن التنميط الدكتاتوري، لأنها مزعجة في كثير من الأحيان، ولأنها تتحدث بصراحة ومن دون تلفيق، ولأنها تحاول تسمية كل شيء باسمه، ولأنها تضع النقاط على الحروف، ولأنها تبدأ من الواقع لتعالج ذلك الواقع من دون تجميل ومن دون تطبيل ومن دون تزمير.
عندما كنا نشتكي من انعدام الديمقراطية في الماضي كان يقال لنا إن ما لدينا أفضل من التناوش بالكراسي الذي نشاهده في البرلمان الهندي ولسنا بحاجة إلى المشاكسات التي نراها في البرلمان الكويتي. ولكن غاب عن قائلي تلك الجُمل، أو انهم حاولوا عدم الاكتراث، بأن أبناء الشعب في الهند والكويت لم يكونوا يرزحون في السجون، وان الهند - مثلا - وعلى رغم فقر كثير من أبنائها، تمكنت من الإمساك بأفضل موقع عالمي في صناعة البرمجة الكمبيوترية، وأصبحت الآن من أهم مصدري البرامج والخبرات الرقمية إلى العالم.
إننا نعيش في عالم غير منمط وليس كل شيء هو أسود وأبيض. فليست هناك «طريقة واحدة» لكل شيء في حياتنا، وإنما هناك الآن طرق متعددة لكل شيء. والذين كانوا يؤمنون بأن لديهم الحلول والأفكار لكل شيء انكفأوا إلى مستويات متواضعة لعلمهم بأن التعقيد في عالم اليوم لا يحله اينشتاين ولا يحله أرسطو ولا يحله أفضل عالم اجتماع أو سياسة أو رياضيات أو أي تخصص آخر.
إنه عالم معقد الشئون ومتعدد الأوجه ومضطرب الأحوال، وكل تلك العوامل ترفض أية محاولة لتنميط الحياة العامة. فأي قائل إن لدينا أفضل مسئول وأفضل برنامج وأن المشكلة تكمن في عدم فهم الشعب أو في الازعاج الصادر من العملية الديمقراطية إنما يقول ذلك مقدمة لإعلان عجزه. إن ما نعلمه ان الحياة الكثيرة الوجوه تتطلب العملية الديمقراطية الازعاجية التي تستخرج الحلول من حال التجاذب والتضارب بين مختلف قوى المجتمع. فالمحصلة الديمقراطية أدوم عمرا وأفضل طريقا، لأنها تجعل الجميع يشترك في الجهد والجميع يشترك في النتيجة مهما كانت تلك النتيجة.
ومناسبة الحديث عن التنميط هو عودة لغة سابقة كانت تخيم علينا قبل الإصلاح. تلك اللغة التي تدعي ان كل شيء على ما يرام، وان المسئول بحاجة إلى وقت من دون ازعاج من الناس (الذين لا يفهمون) ومن دون مساءلة ديمقراطية ومن دون استفسار هنا أو هناك. وإذا كانت الديمقراطية ستوافق على هذا النهج فلماذا انفسح المجال لحرية الصحافة ولحرية التجمع السلمي من الاساس؟!
إن الفعاليات السياسية البحرينية أثبتت جدارتها في تحمل أعباء المسئولية، وأثبتت الاتجاهات المعارضة والمؤيدة للحكومة جميعها ان بإمكانها التعايش السلمي على رغم ابداء وجهات النظر المختلفة، ولذلك فإن محاولة إعادة تنميط حياتنا العامة ليس له داعٍ من الأساس
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 85 - الجمعة 29 نوفمبر 2002م الموافق 24 رمضان 1423هـ