قال خطيب جامع الفاتح الإسلامي الشيخ عدنان بن عبدالله القطان، في خطبته أمس الجمعة (28 أبريل/ نيسان 2017): «إن هدف العمل في الإسلام ليس كسب المال فقط، ففضلاً عن معانيه التعبدية، فإن من غاياته تحقيق الأمن الاجتماعي بين الناس، وهذا يؤدي إلى التوازن النفسي على مستوى الفرد والجماعة، وكم من مجتمعات بلغت الغاية في الكسب المادي، ولكن أفرادها ظلت حياتهم مملوءة بالقلق والخوف والوحدة والشعور الحاد بالغربة القاتلة، وكأنها تعيش في غابة مملوءة بالوحوش الكاسرة، لذا نجد علاقات طردية بين العمل الصالح - والذي من وراءه بسط الرزق - والتوازن الاجتماعي».
وتحت عنوان «مكانة العمل وآدابه في الإسلام»، قال القطان: «إن للعمل في الإسلام مكانة عالية، ومنزلة رفيعة به ينال الأجر والثواب، وهو عبادة عظيمة لله وامتثال لأمره، عن طريقه تقوم الحياة، وتعمر الديار، وتزدهر الأوطان، ويحدث الاستقرار، أمر به سبحانه وتعالى فقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً)، وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)... واعتَبَر الإسلام العمل نوعاً من أنواع الجهاد في سبيل الله، فقد رأى بعض الصحابة شابًاً قويًّا يُسرِع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله، فردَّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تقولوا هذا؛ فإنَّه إنْ كان خرَج يسعى على ولده صِغاراً، فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على أبوَيْن شيخَيْن كبيرَيْن، فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)».
وأوضح القطان أن «هدف العمل في الإسلام ليس كسب المال فقط، ففضلاً عن معانيه التعبدية، فإن من غاياته تحقيق الأمن الاجتماعي بين الناس، وهذا يؤدي إلى التوازن النفسي على مستوى الفرد والجماعة، وكم من مجتمعات بلغت الغاية في الكسب المادي، ولكن أفرادها ظلت حياتهم مملوءة بالقلق والخوف والوحدة والشعور الحاد بالغربة القاتلة، وكأنها تعيش في غابة مملوءة بالوحوش الكاسرة، لذا نجد علاقات طردية بين العمل الصالح - والذي من وراءه بسط الرزق - والتوازن الاجتماعي، وهذا المفهوم يتضح من خلال الحديث الصحيح الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ , وَيُنْسَأُ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) لقد جعل الله الأرض مستقر حياة الإنسان ومعاشه في هذه الدنيا، وأوجد فيها الكثير من النعم، وسخر جميع المخلوقات لخدمته، ونوع له أبواب الرزق وطرقه، وأمره بالسعي والعمل الصالح النافع الذي جعله سببا لمعاشه وعزته وقوته، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) والمطلوب أن ينزل المسلم في ميادين الحياة مكافحاً، وإلى أبواب الرزق ساعياً، ولكن قلبه معلق بالله، وفكره لا يغيب عن مراقبة الله وخشيته، والالتزام بحدوده والتقيد بأوامره، يقول جل وعلا (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)».
وذكر القطان أن «نظام هذه الحياة، يتطلب السعي والعمل، فجميع المخلوقات من حولنا تسعى بجد، وتعمل بنشاط، فكان من الواجب أن ينهض الإنسان للعمل مستشعراً بشعار الجد والنشاط، طارحاً القعود والكسل وراءه ظهرياً، حتى يقوم بما فرضته عليه طبيعته الإنسانية، وهي سنة الله في خلقه، وبما أوحت إليه القوانين الشرعية، والعاقل لا يرضى لنفسه أن يكون كلاً على غيره، وهو يعلم أن الرزق منوط بالسعي، وأن مصالح الحياة لا تتم إلا باشتراك الأفراد حتى يقوم كل واحد بعمل خاص له، وهناك تتبادل المنافع، وتدور رحى الأعمال، ويتم النظام على الوجه الأكمل. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) ويقول أيضاً: (إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)».
وبين أن «الإسلام عظم من شأن العمل مهما كان هذا العمل صغيراً أو كبيراً، في المصنع أو في المتجر أو في المستشفى أو في الوزارة أو في السوق، أو في محطة للوقود، أو في بناء العمارات وتشييد المباني، أو في الزراعة وحراثة الأرض، أو كان العمل في حفظ الأمن وحراسة الأموال والأعراض، أو كان في القضاء والفصل بين الناس أو غير ذلك، بل حتى عمل المرأة في بيتها لزوجها وأولادها فأنها تؤجر عليه. فعلى قدر عمل الإنسان يكون جزاؤه، وإذا كان العمل بهذه الأهمية والمكانة، فإن له آداب وواجبات ينبغي لكل مسلم أن يلتزم بها وهو يقوم بأي عمل من الأعمال، فعليه ابتداءً أن يتقن في عمله، وتلك صفة عظيمة في حياة المؤمن، لذلك كانت مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإتقان في الأعمال، فقد قال: (إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ)».
ونبه القطان إلى أن «الإتقان سمة أساسية في الشخصية المسلمة، يربيها الإسلام عليه منذ أن يدخل فيه، وهي التي تحدث التغيير في سلوكه ونشاطه، ولأن كل عمل يقوم به المسلم بنيّة العبادة هو عمل مقبول عند الله، يُجازى عليه سواء كان عمل دنيا أم آخرة. يقول تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) ومن الآداب: أن الإسلام نهى أن يجلس الرجل بدون عمل، ثم يمد يده للناس يسألهم المال، فالذي يطلب المال من الناس مع قدرته على العمل ظالم لنفسه؛ لأنه يُعرِّضها لذل السؤال، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من المسألة، وبالغ في النهي عنها والتنفير منها، فقال صلى الله عليه وسلم: (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ) وقال صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ, فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ, خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ, أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ) ويقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وأن الله تعالى إنما يرزق الناس بعضهم من بعض)، ويقول أيضاً:(أني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفة فإن قالوا لا سقط من عيني). فعلى المسلم أن يعمل ويجتهد أياً كان هذا العمل مادام العمل مشروعاً وشريفاً حتى تتحقق قيمته في الحياة».
وتابع «من آداب العمل في الإسلام أن يكون العامل قوياً أميناً. والقوة تتحقق بأن يكون عالماً بالعمل الذي يسند إليه، وقادراً على القيام به، وأن يكون أميناً على ما تحت يده، يقول الله تعالى على لسان أحدى أبنتي النبي شعيب عليه السلام: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وأن يكون العامل بعيداً عن الغش والتحايل، فالغش ليس من صفات المؤمنين (...) ومن الآداب والواجبات على العامل المسلم الالتزام بالمواعيد، والنصح لصاحب العمل، وتحري الحلال، والبعد عن الأعمال المحرمة، ويجب على العامل أن يحفظ أسرار عمله، فلا يتحدث إلى أحد - خارج عمله - عن أمورٍ تعتبر من أسرار العمل، وعليه أن يلتزم بقوانين العمل، ويجب على العامل أيضاً أن يحافظ على أداء الصلوات وإيتاء الزكاة، والقيام بسائر العبادات على أكمل وأحسن وجه، بل إن ذلك من أسباب الحصول على الرزق والتوسعة فيه. ومن هذه الآداب الالتزام بالدوام والتبكير إلى العمل، حيث يكون النشاط موفوراً، وتتحقق البركة، يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها)».
وفي موضوع آخر، بعنوان «فضائل شهر شعبان المبارك»، قال القطان: «ها هي أعمارنا وآجالنا تطوى يوماً بعد يوم، وها هو شهر شعبان المبارك يحل ضيفًاً علينا، وهو شهر غفل كثير من الناس عن فضائله ومنحه وجوائزه الربانية، وقد جاء عن سيد ولد عدنان صيامه والإكثار منه، فقد قالت الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَاماً مِنْهُ فِي شَعْبَانَ) وفي رواية: (كانَ يَصُومُ شعبان كُلّهُ إلاَ قليلاً)، فعلى المسلم والمسلمة الإكثار من الصيام فيه على حسب الطاقة؛ شريطة ذلك ألا يفوته ما هو أوجب منه وأفضل، والمرء أمير نفسه في صيامه، فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقل. ولا تعيين في صيامه ولا تحديد، فيجوز الصيام على الصحيح من أوسطه أو أوله أو آخره مجتمعة أو متفرقة».
وأضاف «من الحكم في صيام شعبان: التهيئة ورفع الكلفة والمشقة لصيام شهر رمضان؛ ليدخل المرء في صيامه باستعداد وشغف تام، وفرحة واستبشار وأنس وأنوار، فهو مقدمة لشهر عظيم، وتمهيد لشهر كريم، فرض الله صيامه في كتابه الكريم، فالصيام قبله في شهر شعبان، والصيام بعده في شوال، كالسنن الرواتب القبلية والبعدية بين يدي المكتوبة، فشعبان كريم بين شهرين كريمين، وعظيم بين شهرين عظيمين».
وبين القطان أن «من الأعمال الصالحة التي يمكن للمؤمن أن يعملها في شعبان: قراءة القرآن: لأن القرآن نزل وعورض في رمضان، وشعبان تقدمة له. وكذلك ذكر الله تعالى، من الدعاء والاستغفار والتحميد والتهليل والتكبير والتسبيح والاسترجاع وقيام الليل والصدقات والزكوات، والإكثار من الصلاة والسلام على النبي وآله وغيرها من الأعمال الصالحة. ولا ينبغي أن نغفل عن ليلة النصف من شعبان، حيث صحت فيها فضيلة، ولم تصح فيها فضائل أخر، ذكرت في كتب السير، ونقلت في كتب الحديث وفي كتب الفقه، لكن الثابت والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم- فقط في ذلك كما ذكر المحققون - أنه قال: (إِنَّ اللهَ يَطَّلِعُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِخَلْقِهِ جَمِيعاً إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ)، فتفقد يا عبد الله قلبك، وراجع توحيدك، ونق قلبك نحو إخوانك، ولا تبيتن تلك الليلة وبينك وبين مسلم خصومة أو شحناء عسى الله - عز وجل - أن يغفر لنا ذنوبنا جميعاً».
العدد 5348 - الجمعة 28 أبريل 2017م الموافق 02 شعبان 1438هـ