العدد 84 - الخميس 28 نوفمبر 2002م الموافق 23 رمضان 1423هـ

القروض مشروطة بثلاث فرضيات آخرها الإصلاح بإشراف صندوق النقد الدولي

«باريس 2»: مشروع علاقات عامة لدولة لبنان أم تجميد فعلي للأزمة؟

سمير صبح comments [at] alwasatnews.com

.

كان من المناسب الاستمهال بعض الشيء قبل الخروج بتقييم موضوعي بنتائج مؤتمرات باريس «2» الذي عقد في قصر الاليزيه في باريس برعاية الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ومشاركة حشد كبير لممثلين من 27 دولة اضافة الى الصناديق العربية والعالمية، خصوصا في ظل اجواء الاشادة الزائدة عن اللزوم والتفاؤل المفرط التي سبقت وواكبت مثلث هذه التظاهرة الصادرة عن وسائل اعلام عربية، لبنانية تحديدا، قابلتها حالة من شبه عدم الاكتراث لنظيراتها الغربية، وتصويب لامس حد الانتقاد من قبل الصحافة الفرنسية الاكثر شهرة.

ففي حين تحدثت الاطراف الاولى عن «بداية عد عكسي» للخروج من الازمة الاقتصادية وعن الخطوة الجبارة» او «الثقة العالمية بامتياز» الى آخر هذه المعزوفة، اعتبر الاعلام الفرنسي ان الدول العربية والمؤسسات المالية العالمية والاتحاد الاوروبي، انطلقوا جميعا من التركيز عن خطورة الوضع القائم في منطقة الشرق الاوسط لتبرير إعطاء موافقتهم على دعم لبنان حرصا على تجنب الاسوأ. ولقد لخص هذا الموقف بكل تجرد ومن دون مجاملة ، الرئيس شيراك عندما قال في المؤتمر الصحافي الذي عقده في اختتام اعمال «باريس2» : (هنالك مخاطر من حال عدم استقرار في المنطقة. لذلك لا تجوز اضافة ازمة اقتصادية محتملة على الازمات السياسية والعسكرية القائمة».

المهم الآن ان لبنان تمكن بفضل دعم اصدقائه والجهود التي بذلها رئيس وزرائه رفيق الحريري بحكم الرصيد الذي يتمتع به عربيا ودوليا، من دفع الدول المشاركة وليس المانحة لان عدد منها مثل المانيا واسبانيا وبريطانيا، لم تقدم شيئا للتعهد بتوفير مساعدات على شكل قروض بلغت قيمتها الاجمالية 4,4 بليون دولار. مبلغ كانت الحكومة على علم بالوصول الى سقفه قبل 48 ساعة من انعقاد المؤتمر. ذلك على رغم سيناريوهات التسويق التي قام بإخراجها الجميع من دون استثناء في محاولة للفت الانظار نحو هذا الجانب الكمي وابعادها عن التساؤلات المطروحة، المتعلقة بالجانب الفني والقاضي بتقديم مشروعات وافية ومقنعة لما اسمته «بالفائدة التفضيلية» والانعكاسات الفعلية على حجم الديون وعلى خدمتها على اي حال لابد من التذكير بان اقرار هذه المساعدة «المشروطة» التي نفاها جملة وتفصيلا» وزير المالية فؤاد السنيوره وتأكيد تدفقها من قبل الرئيس الحريري مع بداية العام المقبل، لا يعني الجزم بدخولها خزائن البنك المركزي فتجارب لبنان السابقة في هذا المجال لم تكن مشجعة على الاطلاق حتى ولو أن بعض المسئولين مهما رافقوا رئيس الحكومة اللبنانية في زياراته الخارجية الاخيرة، رددوا مرارا على مسامع من التقوهم من مصرفيين ورجال الاعمال بان هذه المرة «ستكون على شكل». إبعاد الكأس المرة فقط

في سياق مادار من نقاشات، وانطلاقا من لمحصلة النهائية للمؤتمر، يشير مسئول اوروبي كبير بأن كل شيء سيبقى مرهونا بفرضيات ثلاث: الاولى، إثبات الدولة اللبنانية لقدرتها على تسريع عملية الاصلاح الاقتصادي التي التزمت بها خصوصا لناحية الشروع الفوري بتطبيق برنامج التخصيص في اوسع القطاعات، تماما كما اعلن الرئيس الحريري في مداخلة امام المؤتمرين. ثالثا، الادارة الجيدة والشفافة للمبالغ التي تصل للخزانة اللبنانية واستخدامها في الوجهة الصحيحة، اي عدم توظيفها في تدخلات لحماية العملة الوطنية من المضاربات، كما حصل في السابق مع الودائع التي قدمتها دول عربية خليجية للبنان وتبخر معظمها. اما الفرضية الثالثة وهي الاصعب برأي هذا المسئول الاوروبي فتتلخص بايجاد أرضية للتفاهم مع صندوق النقد الدولي الذي تمنع عن إعطاء اي تقويم، سلبي أو إيجابي، لنتائج المؤتمر، وذلك بناء على طلب واشنطن، التي لم تشأ عرقلة مساعي رئيس دولة حليفة، هي فرنسا. فموقف الادارة الاميركية كان واضحا منذ البداية على رغم محاولات مندوبها ويليام بيريز اخفاء حالة من العموميات على مداخلته وتصريحاته اللاحقة للصحف العربية الموجودة في باريس في حينه، والذي تعمد بعضها المغالاة في ايجابياتها، علما بأن بيرنيز لم يحد قيد انملة عن المضمون الذي هو بمثابة الرسالة الاساسية الموجهة لجميع من يهمهم الامر من المشاركين في المؤتمر وخارجه. لقد قال مساعد وزير الخارجية الاميركي: «إن الولايات المتحدة الاميركية تشجع لبنان على التعاون بأقرب شكل ممكن مع صندوق النقد الدولي لاجل المزيد من الاصلاحات». بمعنى انه من دون العودة لهذه المؤسسة المالية العالمية والعمل «بنصائحها» حتى ولو كانت مكروهة من مجتمعات الدول النامية واثبتت في كثير من الحالات فشلها بل عدم جدواها، التي تأتمر في نهاية المطاف بأمر واشنطن، فإن كل ما نتج عن «باريس»، يبقى قابلا للمراجعة وحتى للتأجيل. فكل ما عدا ذلك يتابع المسئول الاوروبي، يكون مواربه غير صادقة، وبعدا عن الحقيقة والموضوعية.

من ناحية أخرى. فإنه من السابق لأوانه الحديث عن «الانتصار الكبير»، حتى لو كانت السوق اللبنانية تجاوبت بسرعة مع محصلة المؤتمر، اذ ترجم ذلك بطلب كثيف على الليرة بدءا من مطلع الاسبوع ما ادى إلى تحسن سعر صرفها في مقابل الدولار الاميركي كما تراجعت معدلات الفوائد نصف نقطة. لكن هذه الانعكاسات الفورية في عالم المال وطبيعة أسواقه، لا يعني بالضرورة بدايات ثابتة ودائمة للتصحيح الاقتصادي المتوسط الامد. فالذي حصل عمليا كان ردة فعل اعتبرها الاقتصاديون اللبنانيون المحايدون «مصطنعة»، ساهمت بخلقها بعض السوق المقربة من دوائر مالية معينة. اما الذي حصل عمليا، ويمكن اعتباره تقدما قد أحرز في هذه المرحلة الدقيقة، فهو امكان تجاوز مواعيد استحقاق مبالغ كبيرة من سندات الخزينة التي يستحق جزء كبير منها للسداد خلال سنة 2003، بما فيها سنوات اليورو - بوند. لكن ذلك يبقى مرهونا بمدى التزام الدول المانحة للقروض الجديدة بتعهداتها في الوقت المناسب.

تشخيص وزير المال الكويتي

فكلام وزير المال الكويتي، يوسف الابراهيم، الذي مثل بلده في المؤتمر، كان تشخيصا دقيقا للحال المالية اللبنانية، واضعا إصبعه على الجرح، محاولا قدر الامكان تفسير ما جرى لتوقعات في حدود الممكن، مع تذكيره بأن حجم الدعم الذي تم التعهد به (300 مليون دولار) ليس قليلا بالنسبة لدولة «صغيرة» مثل الكويت وأشار هذا المسئول، إلى انه قبل كل شيء، يجب ان يحصل اتفاق مع السلطات اللبنانية على إصدار السندات - لان مساهمة الكويت هي من خلال هذه الصيغة - عبر مؤسسة مالية عالمية (اي الضمانة)، يرافقها اتفاق على سعر الفائدة ما يعني ان هذه المسألة ليس كما شاء البعض تصويره على انها حسمت. فمشكلة لبنان برأي الابراهيم، ان لديه قروضا قصيرة الامد بفوائد مرتفعة، يرغب في ان تكون طويلة الامد بفوائد معقولة، وليست «تفضيلية»، متدنية كما تم الترويج له. ويختتم هذا الاخير تحليله المختص، بالتذكير، بإن الحديث عن الفوائد لم يتم الاتفاق عليه بعد، وستكون كقروض دول الاخرى. ما يؤكد بانه ليس هنالك ادنى استعداد من «اصدقاء لبنان» المانحين للقروض التنازل عن دولار واحد يعود لخزائن بلدانهم او مؤسساتهم. فحديث البعض عن قروض «سينسونها» بحكم الصداقة والعلاقات الخاصة ليست في الوارد فإذا كان مؤتمر «باريس» الخطوط الأولى للخروج من الأزمة . فإنها في نفس الوقت الفرصة الاخيرة الممنوحة للبنان لاصلاح اقتصاده وتحسين ادائه. فخفض حجم خدمة الدين لن يتجاوز في احسن حالاته اليوم الـ 250 مليون دولار سنويا وليس 700 مليون كما ذكر الفريق المقرب من رئيس الحكومة اللبنانية مستخدمة الدين العام الذي سيتجاوز حجة الاجمالي الـ 31 بيلون دولار مع نهاية العام الجاري تبلغ اليوم 3,5 بليون دولار.

التخصيص أو الجولة الثانية

في أول تعليق على نتائج المؤتمر، قال الحريري: من الآن وصاعدا «لن ننفق على شيء لسنا في حاجة إليه». ما حدا بأحد المسئولين الظرفاء للتعقيب: «هذا يعني بأن كل ما انفقه في السابق على مشاريع وتلزيمات، لم يكن لبنان بحاجة إليه «ففي التعليق نفسه، أكد رئيس الحكومة انه «لا استدانة بعد اليوم والتخصيص خلال اسابيع». الواضح من وراء ذلك بأنه يريد اجراء عملية تخصيص واسعة النطاق تمثل قطاع الهاتف والكهرباء والماء والمواصلات، التي سترافقها في حال تنفيذها عمليات «تسنيد» من شأنها ان تؤمن للدولة تدفقات مالية تصل إلى 5 بلايين دولار اضافية، ليصيب عصفورين بحجر واحد. فتسريع برنامج التخصيص هذا إلى حد الالتزام بعد ساعات من انتهاء مؤتمر «باريس 2» والاعلان عن بدئه خلال اسابيع، هو تلبية واضحة لمطلب اساسي من مطالب صندوق النقد الدولي. لكن يبدو من خلال المعطيات الموجودة على ارض الواقع في لبنان بأن هذه الجولة الثانية والانتصار الكبير الذي بدأ الاعداد له، لن يكون نزهة بالنسبة إليه، لانه في ظل تأزم اجتماعي وصل إلى اوجه وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، عليه ان يتوقع مفاجآت لا يمكن لانجازات «باريس 2» احتواءها أو حتى التخفيف عنها. ويبدو كذلك بأن استخدام وسائل ضعف خارجية لتمرير برنامج التخصيص وتصريحات من نوع «انتقدنا بشدة على التأخير بعملية التخصيص»، من شأنها ان تكون مؤثرة في مجريات الامور في هذه المرحلة بالذات، إذ تتقاطع التوترات الاقليمية والأزمة الاجتماعية الخانقة الداخلية. الامر الذي لا يريد خبراء صندوق النقد الدولي فهمه او تفهمه.

فهذه المؤسسة المالية التي تمارس ضغطها على الحكومة اللبنانية والتي لن تسهل مهمتها على الاطلاق قبل تنفيذ مهمتها لاتزال على عادتها تعالج المشكلة من زواية ايديولوجية ضيقة، تقضي بضرورة التخصيص بسرعة، غير عابئة بالانعكاسات السلبية التي ستنجم عن هكذا خطوة فالذين بخصصون بالسرعة الاكبر هم الذين يحصلون على العلامات الجيدة من قبلها. هذا مايراه مستشارو الرئيس الحريري ويعملون على اقناعة بصوابيته وجدواه، خصوصا لناحية استمالة واشنطن. لكن عليه الاعتبار من جهة اخرى، مع اخذ تجارب الغير بالاعتبار، بأنه غالبا لم تجلب عمليات التخصيص وفق هذه الوتيرة، الحسنات المرجوة. فالفشل الذي رافقها، وردات الفعل العنيفة التي نجمت عنها، ستؤدي إلى تجدر حال العداء لفكرة التخصص من اصلها لدى الشعب اللبناني. فبالونات الاختبار التي اطلقها بعض اطراف الحكومة في الاشهر الماضية، جاءت بمؤشرات على خطوة هذه العملية. ما يجعل مهمة رئيس الوزراء ورهانه عليها معقدة وغير مضمونة.

من ناحية اخرى، فإن عائدات التخصيص، فيما لو تمت هذه الجولة الثانية بولادة طبيعية، غير قيصرية، اي من دون مشاحنات سياسية وصدامات في الشارع، كما هو متوقع، لن تأتي بأكثر من اربعة بلايين دولار من الان وحتى نهاية .2004 ولن تكون، بأي حال من الاحوال، الحل الامثل لمشكلة تركيبة الدين عبر خفض حجمه لا تغيير شكله كما يريد الرئيس الحريري. هنا يجب الاعتراف بأن من الايجابيات التي اعطاها مؤتمر «باريس 2» هو خضوع هذا الاخير للمرة الاولى منذ قيادته للسلطة التنفيذية في لبنان، وتقديمه لخطة اقتصادية واضحة المعالم، تشير بالارقام للعجز في الموازين وتطرح المشكلات وتطالب بالمساعدة على الحل.هذا ما يمكن تسميته بداية السير على طريق الاصلاح الاقتصادي. لكن ذلك لا يكتمل من دون حسن إدارة المال المتوقع وصوله باعطاء الاولوية لاستبدال الديون الراهنة بالعملات الاجنبية قبل الديون المحررة بالليرة بهذه ابقائها تحت سيطرة القرار الوطني، لانه كلما ارتفعت نسبة الدين الخارجي تزيد المخاوف من فقدان السيطرة على القرار الوطني.

ولا يتوقف الامر عند هذا الحد، بل يتوجب على الحكومة، فيما إذا ارادت السير حتى النهاية في احترام التزاماتها، بغض النظر عن «باريس 2» ونتائجه، العمل على تحويل التوجهات الاصلاحية، وتصحيح الموازين المختلة، الواردة في ورقة الحكومة المعلنة إلى برامج تفصيلية مبرمجة بجدول زمني وتحديد آليات رقابة داخلية على تنفيذ هذه البرامج تفاديا للوقوع تحت سيطرة الشروط التي يلوح بها صندوق النقد الدولي الذي يتمتع بدور وقائي للطروحات الاصلاحية الحكومية. والذي يبدو انه على رغم الحديث عن تباين بعض النقاط الا ان النية لدى الحكومة بالعودة لهذه المؤسسة المالية لترافقها في خطواتها المستقبلية.

بانتظار «باريس 3» المتوقع انعقاده بعد سنة تقريبا، على لبنان إثبات جديته وقدرته على تنفيذ التزاماته، كما يطلب من اصدقائه الايفاء بتعهداتهم. ماذا وإلا سقط في امتحان القبول النهائي

العدد 84 - الخميس 28 نوفمبر 2002م الموافق 23 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً