العدد 84 - الخميس 28 نوفمبر 2002م الموافق 23 رمضان 1423هـ

أميركا وشخصيتها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المنهج الخلدوني (ابن خلدون) عن البداوة والحضارة الذي استخدمه المؤرخ والباحث الاجتماعي علي الوردي لدراسة تاريخ العراق واستخلاص عناصر «شخصيته» يمكن تطبيقه أيضا على مختلف تجارب الأمم. إلا ان لكل تجربة خصوصيتها وأسبابها وأهدافها. «إسرائيل» مثلا دولة قامت على استجلاب كل من يريد الهجرة من يهود العالم الى أرض فلسطين. فهي بحسب النظرية «الصهيونية» مكان الوعد، ومن هناك تبدأ نهايات وتنتهي بدايات.

أميركا أيضا قامت على أساس الهجرة والاستقرار ثم الهجرة والاستقرار إلا أن خصوصيتها تختلف تاريخيا ومنهجيا عن مختلف التجارب الأخرى وتتفق الى حد كبير مع طبيعة «إسرائيل» وتكوينها التاريخي.

المهاجرون الأوائل إلى «العالم الجديد» حملوا معهم أفكارهم الدينية «الطهرانية» واعتبروا تلك الأرض جديدة وهي «هبة» للشعب المسيحي الأبيض. المهاجرون الأوائل الى أميركا حملوا معهم أيضا «الكتاب المقدس» ووجدوا أن تلك البلاد «جديدة» وأرضها مشاع لا تعود ملكيتها الى شعبها الأصلي. أميركا الجديدة انطلقت من الصفر، وحتى تكتمل فكرتها «الطهرانية» كان لابد من إزالة الشاهد عليها فبدأت عمليات الطرد والاقتلاع واستجلاب السكان من أوروبا وإعادة تأسيس الدولة على أرض خلاء.

التأسيس وإعادة التأسيس أعطى لفكرة «الدولة» في العالم الجديد قوة مركزية. فالدولة في أميركا سابقة للمجتمع وهي الوعاء السياسي الذي يحتضن كل المهاجرين من أي مكان في أوروبا ويعطيهم جنسية جديدة «أمريكو». وأمريكو هو اسم المكتشف الثاني للعالم الجديد بعد مكتشفها الأول كريستوف كولمبوس.

«أمريكو» ليست هوية قومية، هي جنسية للدلالة على هيئة عامة تجمع كل المهاجرين من أوروبا وهي الدولة. فالانتماء في أميركا ليس للمجتمع وإنما للدولة. فهي المؤسسة (الوعاء) الذي يخلط كل «الهويات» ويعيد انتاجها في جنسية جديدة تجتمع في ظلها كل الهويات. و «الفكرة الدينية» عند المؤسسين الأوائل كانت قوية بل انها شكلت العمود الفقري لكل المهاجرين الذين نزحوا من أوروبا (العالم القديم) بحثا عن عالم جديد يعاد تشييده من منطلقات نظرية (أيديولوجية) لا تربطه بأوروبا سوى ذكريات الجغرافيا والتاريخ.

أوروبا خلال 500 سنة انتشرت الى «العالم الجديد» واستراليا ونيوزيلندا وسحقت كل الجماعات صاحبة الأرض وسكان تلك البلدان ونقلت إليها تجاربها وعلومها وسكانها وأعادت تأسيس دولها هناك للإشراف على ما تبقى من «العالم القديم».

نعود الى أميركا. الولايات المتحدة هي نتاج تلك الدورة من الترحال والاستقرار تتميز عن غيرها أنها كانت الأكثر «تدينا» من غيرها في البدايات الأولى لتأسيسها. وعلى رغم التغيرات والتحولات التي طرأت لاحقا على ألوان (هويات) شخصيتها بقيت الدولة هي اللاعب الأساسي في صوغ هيئة المجتمع. فأميركا بعد استقلالها عن بريطانيا بدأت بـ 13 ولاية في شرقها وتضخمت وتوسعت في محيطها حتى وصلت الى 50 ولاية في أقصى الغرب. وبعدها أخذت بالتضخم والتوسع خارج دائرة محيطها فامتدت هيمنتها على محيطها القاري الى أن انتشرت كونيا (دوليا). الترحال والاستقرار او تجميع السكان واستيعابهم تمهيدا للتوسع والاستيلاء بقيادة الدولة هي مسألة أميركية بامتياز. و«إسرائيل» في المشرق العربي هي الدولة الوحيدة التي تشبهها مع اختلافات كثيرة لها صلة بالمحيط العربي الإسلامي الممانع لامتداد المشروع الصهيوني في فلسطين وخارجها.

الى الممانعة العربية - الإسلامية التي لم تتوافر شروطها الدولية قبل 500 سنة لشعوب الهنود الحمر في أميركا، هناك أيضا اختلاف جوهر «النص الديني» بين الجماعات المسيحية الأولى التي نزحت الى أميركا والجماعات الصهيونية الأولى التي نزحت الى فلسطين. نص الجماعات المسيحية الأوروبية كان أكثر تدينا وأقل تعصبا. فهو نص ديني متسامح ومفتوح على مختلف الشعوب مع أولوية أوروبية، بينما يقوم النص الصهيوني على فكرة مغلقة ومركزة على فئة واحدة تعتبرها «إسرائيل» هي «شعب الله المختار». لذلك فان السمة الأساسية لتركيب شخصية «إسرائيل» هي الانكماش والتركيز على الذات، بينما شخصية «أميركا» فهي أقرب الى التعدد في الهويات في إطار مشترك تقوده الدولة. فالدولة في النموذج الأميركي هي الوعاء وفي «إسرائيل» هي رأس حربة. ومع ذلك ترى قيادات أميركا (البيت الأبيض أو التحالف المسيحي) ان «إسرائيل» هي نموذجها الخاص في الشرق الأوسط... وهي حليفها «الديني» والاستراتيجي

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 84 - الخميس 28 نوفمبر 2002م الموافق 23 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً