في بريطانيا هناك مجلس يُعرَف بـ كارا (CARA). مهمّته هي مساعدة الكوادر الأكاديمية المعرَّضة حياتها للخطر. قبل أيام نُقِلَ عن مديره التنفيذي السيد ستيفن ووردزوورث وصفاً مريعاً لأعداد الأكاديميين والعلماء المعرَّضين للخطر في أوطانهم، وكيف أنه زادَ بشكل مخيف. هو يذكر أنه وخلال العامين الماضيين وصلت طلبات الدّعم ما بين 15 و 20 طلباً في الأسبوع بعدما كان مستوى الطلب قبل ذلك لا يزيد عن 3 أو 4 طلبات أسبوعياً فقط.
ويضيف ووردزوورث بأن هذا المستوى من الطلبات لم يشهده المجلس منذ عمله في ثلاثينات القرن الماضي. وهو محق عندما قال بأن «هؤلاء هم التمثيل الحقيقي لمستقبل التعليم العالي المتقدم في أوطانهم، فإذا ما وقعوا ضحية التشريد أو لَحِقَ بهم الموت فإن إمكان إعادة بناء أوطانهم المدمَّرة ستصبح مستحيلة».
في مقال مهم لـ جونجان سينها تحت عنوان: the stories of refugee scientists يسرد الكاتب نماذج لقصص صادمة لعلماء شرَّدتهم الحروب والأزمات السياسية عن بلدانهم العربية. ولنا أن نتخيَّل إذا ما وصل الحال بنخبة المجتمع إلى هذا المستوى من التيه الذي لا يُشتت عقولهم فقط بل يدفعهم للموت حتى.
يضع جونجان صورة لرجل حائر يجلس بصمت من وراء نافذة اسمه محمد علي محمد، ثم يعرض قصته المأساوية التي يجب أن تدفع كل عربي لأن يضرب راحة يديه على الأخرى أسفاً عليه.
محمدٌ هذا عالِم سوري متخصص في علم الجغرافيا. وعندما اجتاحت الحرب الأهلية مدينته حلب في العام 2012م أخذ عائلته إلى مسافة 50 كم شمالاً تجنباً للمعارك. لكنه لم يشأ الرحيل عن المدينة. ظل لعامَيْن يخاطر بحياته كل يوم كي يصل إلى مكان تدريسه وطلابه بجامعة حلب، على رغم قِتال الشوارع والرصاص الطائش والقذائف المتبادلة والغارات الجوية.
لم يستطع الاستمرار مع تزايد الوضع سوءاً حين وصل إلى الأكل والمال. سَمِعَت به مؤسسة ألكسندر فون هومبولت في برلين فقدمت له دعوة كي يأتي إلى ألمانيا. ساعده المهرّبون على الخروج بعد أن دفع لهم المال كما يذكر سينها. أخذوه في الظلام الدامس راجلاً إلى طرق وَعِرَة نحو الأراضي التركية ثم واصل مشواره إلى برلين، وهو اليوم هناك يقدم خبراته إلى بلد أجنبي!
قبل ذلك كان عالِم الجيومورفولوجيا (علم شكل الأرض) في جامعة هومبولت الألمانية هيلمار شرودر قد فطن إلى ورطة محمد علي محمد. ولأن هيلمار كان مرشداً أكاديمياً لمحمد عندما كان الأخير يُتِمّ رسالة الدكتوراه في مجال «رسم خرائط التربة» قبل عام واحد فقط من اندلاع الحرب الأهلية السورية بعث له برسالة يقول فيها: إن الجامعة التي دَرَستَ فيها بحاجة إليك. إحزِم أمتعتك من سورية وانضم لهيئة التدريس في وظيفة مرموقة ودائمة!
كان هذا كنزاً ثميناً للألمان. لقد سعى إليه الجميع بدءً من رئيس القسم حتى عميد الجامعة ثم استُقبِل هذا العالِم العربي في مطار برلين بحفاوة. فالذي يجب أن يُدرَك هو أن الـ 3 آلاف و 700 دولار التي حصل عليها محمد كراتب شهري ومعها المبلغ المقطوع البالغ 12 ألف يورو لتغطية احتياجاته الإضافية كباحث لا يشكلان شيئاً أمام ما أنفقه وطنه سورية من مال على تعليمه منذ أن كان طفلاً في الصف الأول وحتى الثانوية العامة والتي قدرناه في مقال سابق بـ 71 ألف دولار ثم إنفاق 639 ألف دولار عليه كفرد طيلة ذلك وهو ما ينطبق على كل طلاب سورية.
قبل سنتين قال الألمان أنهم قد يستفيدون من اللاجئين السوريين لشغل 350 ألف وظيفة مهنية نتيجة عجز المجتمع الألماني عن ضخ مثل هذا العدد في السوق والجهاز الصناعي. قال الألمان ذلك لأنهم أدركوا أن 60 في المئة من السوريين الذين يمتلكون مهارات مهنية والذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و45 عاماً قد تشاطَرهُم الموتُ واللجوء. لذلك كانت الفرصة لا تُعوَّض أمام أكبر اقتصاد أوروبي كي يستقبل هؤلاء المشردين «المَهَرَة» الذين سيقبلون بأي راتب نظراً لظروفهم الحياتية الصعبة.
لذلك ليس من الغرابة أن يقول جونجان سينها في مقاله بأن العالِم السوري محمد علي محمد يعمل في ألمانيا «على مشروع لتشييد خرائط متقدمة لاستخدام الأراضي بالمدن والعواصم، من أجل التخطيط الحضري». ومثل محمد الآلاف ممن فقدتهم سورية. فابن بلده الآخر فرّ من دير الزور وهو يعمل في جامعة بروكسل الحرة باحثاً في مرحلة ما بعد الدكتوراه يجترح للأوروبيين أنجع الطرق للتقليل من نفايات البطاطس التي تُنتجها المعالجات الصناعية. أيّ خسارة هذه التي تحصل. إنها سرقة بطعم المساعدة!
إن هجرة العقول من أكثر الأشياء ألماً واستنزافاً وخسارة للدول والشعوب، فتلك العقول هي التي تصنع لنا التقدم والاستقلال والرفاه وعدم الحاجة للآخرين. لندقق في كل شيء حولنا. الدواء والطائرات والعربات وأجهزة الحاسوب وتلك الأجهزة التي تكشف لنا عن الأمراض ومعها المئات بل والآلاف من الاختراعات والبحوث. سنجد أن هذه الأشياء لم تكن لترى النور لولا وجود «عقول» أبدعت في إخراجها لنا. هذا بالتحديد ما جرى ويجري لعقول سورية ودول عربية وإسلامية كثيرة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5346 - الأربعاء 26 أبريل 2017م الموافق 29 رجب 1438هـ
سلمت يداك محمد
هذا الوطن ايضا حبس خلف الجدران ما يقارب من 4 الاف الى 8 الاف نفس وهو بذلك قد شرد وهمش جزء كبير من الناس (مع اقاربهم) وكم صرفت عليه الدولة وانتهى به الى شاب فقد شبابه و دراسته ومستقبله و مستقبل بلاده و اخيرا جنسيته
و وتم تجنيس.
كلمة ذكرها الدكتور هيثم مناع اخيرا قال ان المصالحات في سورية شيء جيد و ان المسلحين الذين يريدون تسوية اوضاعهم قد رجعوا الى (حضن الوطن). و هذا البلد يجردهم منها و كان جسمهم لم يعجن بتراب هذا البلد.
ما ذكرته عزيزي صحيح مع الأسف الشديد .. مأساة حقيقية فأين المخلصين لينقذو ما تبقى من الوطن !
لم ولن نسمع بأن امثال هؤلاء لو بقو في بلدانهم سوف يحصلون علي اعتراف بعلمهم وابداعاتهم . اعترف صراحة ايها الكاتب العزيز بأن بلداننا وبدون استثناء طاردة وليس حاضنة للمبدعين . دعهم يعملو هناك لعلهم ينفعو البشريه بعلمهم لأن العلم لا يعترف بالجغرافيا .
لا كرامة لنبي في وطنه! فلنفرض ان وطنه لم يستطع توفير الأمن او الأمان الوظيفي .. أين عشرات الدول العربية والاسلامية عنه وعن امثاله؟ الم يكن اولى بأن يحتضنه العرب لكي يظل علمه و عطاؤه بين العرب انفسهم .. هو ليس الأول ولن يكون الأخير .. أحمد زويل، الجراح مجدي يعقوب.. مثالاً .. فنحن آخر امة تعرف قيمة العلم والعلماء ..
متى يعلنون وفاة العرب ... رحم الله نزار!
اسفي
حقيقة مؤلمة ولكن نحن من نصنع اوطاننا لا تصنعنا الاوطان
إن بقي في بلاده مصيره العيش على هامش الحياة أو الموت . وإن لم يمت فقد ينسى الذي درسه وإختبره في حياته الدراسية والعملية . في حالته على الأقل هو يخدم البشرية .
هذا ما تفعله الفتن بالشعوب لعن الله من يدعو اليها