كان وجه الاتحاد السوفياتي بدأ يتغير عشية الاصلاحات التي أطلقها ميخائيل سيرغيفتش غورباتشوف في منتصف الثمانينات، وفي احد اهم ملامح هذا التغيير، عادت الكنائس في روسيا لتعج بالمصلين.
يمكن فهم الاهمية والمدلول هنا بالطبع، لكن بطريرك الكنيسة الارثوذكسية الروسية الراحل ألكسي الثاني كان له رأي آخر في ظاهرة تزايد اعداد زوار الكنيسة وارتفاع عدد المؤمنين وقتذاك. لقد سئل الكسي الثاني في فيلم وثائقي بعنوان «صورة الاتحاد السوفياتي» (portrate-of Soviet Union) اذيع على شاشة محطة البحرين الانجليزية (55) في العام 1987، عن رأيه في عودة الروس بكثافة الى الكنائس فقال: «في العهد القيصري، كان التدين والذهاب الى الكنيسة طريق المرء لامتيازات من نوع ما، وفي العهد السوفياتي، كان التدين يجلب للمرء تهمة ومتاعب لكن بقي عدد قليل من المؤمنين يواظبون على زيارة الكنيسة. الآن تعج الكنائس بالمؤمنين، لكن من بين كل هؤلاء، فان اولئك القلة الذين واظبوا على زيارة الكنيسة في السنوات الماضية هم المؤمنون الحقيقيون في نظري».
من هو الاصلاحي الحقيقي اليوم في البحرين؟ من هم المؤمنون الحقيقيون بالاصلاح؟. اطرح هذا السؤال بعد ان باتت مفردة «الاصلاح» هي الكلمة التي تتردد اكثر من كلمة «الصلاة» مثلا او من كلمة «المحبة» او من كلمة «الحريات»، في الحقيقة لم اعد اسمع كلمة «المحبة» تتردد منذ وقت طويل وينتابني الشك في انها في طريقها الى الانقراض.
المفردات السائدة في وقت ما، تعبر بحق عما ينتاب مجتمعا بأكمله وليس علينا هنا سوى استقراء الخطاب السائد وأكثر مفرداته التي باتت متداولة، ومحاولة فهم المدلول الكامن وراء ارتفاع كل المفردات المعبرة عن القلق لدينا في الآونة الاخيرة مقارنة بكل تلك المفردات الجميلة والواعدة بأيام جميلة لم تأت بعد، كانت تتسيد خطابنا قبل برهة وجيزة.
في هذه المرحلة الانتقالية ليس لدينا سوى القلق. القلق والحذر والتوجس الذي بات ينتج هذه المفردة التي باتت متداولة لدينا هذه الايام اكثر من غيرها: الضوابط. تصدر الحكومة قانونا للصحافة والنشر يوقظ كل المخاوف الدفينة من أفق الحرية ويئد الاحلام بصحافة حرة ومسئولة وببيئة عمل لا يسودها الخوف بل الاحساس بالمسئولية في مهدها. وهو قانون اقل ما يمكن ان يقال عنه انه نتاج ذهنية مازالت تتعامل مع الحرية كرديف للفوضى، فأكثرت من العقوبات وقدمتها في هذا القانون بشكل حصري لقائمة طويلة من المخالفات الخاضعة للاجتهاد والاحكام النسبية.
جرّت الحكومة الجميع للغرق في حديث «الضوابط» هذا باصدارها جملة من القوانين التي لا تكتسي صفة الاستعجال فيما البرلمان يستعد للانعقاد خلال اقل من شهر. لقد صدر قانون النقابات وأثار انتقادات النقابيين، وها هو قانون النقابات المهنية يراجع بعد اعتراضات المعنيين عليه، وها هو قانون الصحافة والطباعة والنشر يراجع بعد ان جاء بعيدا كل البعد عن روح المبادئ التي وضعتها «لجنة تفعيل الميثاق». وأصدرت القانون رقم 56 المتعلق بتفسير بعض احكام مرسوم العفو العام رقم 10 الذي صدر العام الماضي، لتثير عاصفة من التساؤلات القلقة عن الكيفية التي تمكننا من عبور هذه المرحلة الانتقالية الى مرحلة الديمقراطية الموعودة، اي الى المستقبل، فما الذي يجري بالضبط؟.
ان كل هذه الحركة بكل القلق الذي تعبر عنه تتم تحت عنوان «دفع المسيرة الاصلاحية»، وهذا الغرق المتوالي في جدل اصدار القوانين والتراجع عنها انما يجعلنا امام حقيقة ان «الاصلاح» على وشك ان يفقد مدلولاته ومعانيه طالما ان كل هذا القلق والتوجس الذي تعبر عنه قوانين تصوغها ذهنية لاتزال تتعامل بتوجس وتنظر إلى الحرية كرديف للفوضى، وقلق مقابل في المجتمع من انتكاس الاصلاح والتراجع عنه. اننا نراوح في مكاننا وهذه المراوحة لا تعني سوى اننا في الحقيقة ننسى الشرط الاهم لعبور المراحل الانتقالية وترسيخ الاصلاح واقعا يحكمنا: نحن قلقون من الماضي وقلقون اكثر من المستقبل. نحن نراوح في مكاننا فيما يفترض ان نخطو بثقة نحو المستقبل، نحو الايام الجميلة التي لم تأت بعد.
ينسى الكثيرون ان التعافي والسير بخطى واثقة نحو المستقبل لا يمكن ان يتم قبل الفكاك من أسر الماضي، التعافي من آثاره السلبية التي تعوقنا عن السير بثقة ومن دون تردد الى المستقبل. لكن الفكاك من اسر الماضي والتعافي من آثاره يتطلب قبل كل شيء التعامل معه ومواجهته بجرأة والا فان آثاره المدمرة ستمتد وستظل تثقل كاهلنا وستبقى كامنة في وعينا العام وتبقينا في دائرة المراوحة. ان المراوحة في التاريخ ليست سوى عودة.
لكن كيف لنا الفكاك من اسر ماضينا؟. هذا السؤال يفرض نفسه دوما على المجتمعات التي اختارت المصالحة مع نفسها قبل ان تتهيأ لصنع تاريخ جديد لها. والتصالح مع الذات يتطلب شجاعة في الاعتراف بالخطأ، وذاتنا هنا هي الذات البحرينية الاشمل، شعب وبلد وتاريخ طويل، فهل يمكن القفز على هذا التاريخ ببساطة من دون مواجهته على سبيل التعافي من آثاره والفكاك من أسره؟.
انها الاسئلة نفسها التي دارت في اكثر من بلد ومجتمع، لبنان، المغرب، روسيا، جنوب افريقيا. وفي هذا البلد الاخير، قدم اكثر زعماء العالم احتراما وتقديرا نيلسون مانديلا نموذجا راقيا ومتحضرا للتعافي من آثار ماض مليء بالدم والكراهية والظلم الفادح.
كانت جنوب افريقيا في مهب الريح عشية المصالحة والغاء نظام الابارتهايد (الفصل العنصري)، لكن مانديلا ادرك ان على شعب جنوب افريقيا ان يتعامل مع جراح ماضيه بطريقة لا تدفع البلاد نحو تخريب سلمها الاهلي ولا انتصارها التاريخي في الغاء نظام التفرقة العنصرية. اختاروا الحل الأفضل في «لجنة الحقيقة والمصارحة». لم تكن محكمة ولم يتم تشكيلها لكي تصدر احكام الادانة، كانت لجنة اقرب لان تكون ضمير شعب جنوب افريقيا وكل الذين مثلوا امامها لم يمثلوا في الواقع سوى امام ضمير الشعب.
ان اكثر ما يلح علينا في مواجهة ماضينا بجرأة وبعيدا عن دوافع الانتقام والثأر هو قضية العقيد عادل فليفل. ان الحكومة لم تحتمل هذا المدى البالغ من التجاوز واستغلال النفوذ الذي تمثله ممارسات فليفل، فشكلت لجنة للتحقيق معه. ان وجود مثل هذه التجاوزات وأشخاص مثل العقيد فليفل من شأنه ان يؤثر حتى على خططها الاقتصادية ايضا، فكيف لمستثمر ان يثق في مناخنا الاستثماري طالما ان ضابطا بامكانه ان يصول ويجول على هواه بهذا النحو ويبتز الاموال من رجال الاعمال بهذا الشكل الفاضح؟.
لكن الفساد المالي الذي باتت مواجهته احدى اولويات الاصلاح، ليس سوى ثمرة لوضع سياسي اشمل تغيب فيه المشاركة الشعبية في صنع القرار والرقابة على اداء السلطة التنفيذية. وهذا يمس جيلين من البحرينيين على الأقل فقدوا حقهم في المشاركة طيلة العقود الثلاثة الماضية، والوضع الذي سمح لفليفل ان يبتز الاموال ويستغل منصبه بهذه الطريقة هو نفسه الذي سيولد كل انتهاكات حقوق الانسان بكل صورها من تعذيب واعتقالات كيفية واعتداء على الحريات والحرمات.
نعم كانت لدينا مثل هذه الانتهاكات، لنقلها بجرأة ومن دون وجل، واليوم لدينا ديوان للرقابة المالية لا نعتقد انه انشئ لمجرد مهمة شكلية لولا ان حاجة تصل الى حد الضرورة القصوى استدعت انشاءه. فلماذا نقر بوجود الفساد المالي والاداري ونتغاضى عن انتهاكات حقوق الانسان؟. لماذا نعترف بوجود الفساد المالي والاداري وانتشار الرشى، ونغض الطرف عن تلك الآلام التي انغرزت عميقا في نفوس آلاف الناس وفي وعي شعب بأكمله على مدى ثلاثة عقود؟.
لم نتعافَ بعد، ولكي ننطلق الى المستقبل، لابد لنا من مواجهة ماضينا بجرأة ومصارحة وشفافية ومن دون خوف لكي نتعافى من آثاره. نواجه ماضينا من دون دوافع انتقام او ثأر، بل لكي يتعافى مجتمع بأكمله، وليس لنا سوى مكاشفة «حقيقة ومصارحة» تطهر نفوسنا وعقولنا وتتسامى بها بعيدا عن هذا الارث الثقيل من المرارات والاحساس بالظلم والانتهاك القسري لاجسادنا ونفوسنا.
ان تاريخنا ليس مثل تاريخ جنوب افريقيا، والناس هنا لاتزال تتكئ على ارث عريق وطويل من التسامح والتضامن الاجتماعي. لكن التسامح والتضامن الاجتماعي، لن يكون ذا قيمة في حياتنا اليومية او في حياتنا السياسية طالما ان الحد الفاصل بين الخطأ والصواب ضائع في وعينا وفي ممارستنا، طالما ان نفوسنا لاتزال تئن من وطأة الانتهاك الفج. ان النفس التي تئن وتثقلها ذاكرة مليئة بالمرارات لا يمكنها ان تتعافى وتحث خطاها لكي تصنع المستقبل مع الآخرين، اننا نتحدث عن ذاكرة ووعي شعب بأكمله... وتاريخ.
بتنا نخشى على الاصلاح من امرين: غياب هوية الاصلاحي الحقيقي والقفز على ماضينا من دون ان نتعافى منه، وهذا يغذي ذاك. بتنا نحتاج جرأة مقاربة الاصلاح نفسها وهي تطرح نفسها للمرة الاولى ليتلقفها الناس بكل الاندفاع وباجماع وصل الى 98,4 في المئة. هل تذكرون تلك الايام؟
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ