في كتاب «ذهنية الإرهاب... لماذا يُقاتلون بموتهم»، وهو مجموعة مقالات لعدد من الكتَّاب الأوروبيين: جان بودريار، جاك دريدا، إد فوليامي وأمبرتو إيكو، وتولَّى إعداده وترجمته الشاعر والمترجم بسّام حجّار، مقالات تحمل وجهات نظر تبدو على خلاف في الرؤية والنظر، وهي ليست كذلك. ثمة جامع بينها يتفق على أن ممارسة الإرهاب «لا تنطلق من موقع العداء الأعمى، الجاهز سلفاً».
هل كانت اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، الجرس الذي نبَّه العالم إلى المستويات المُرعبة والمنظّمة التي فاجأ بها الإرهابيون أقوى دولة في التاريخ البشري بالنعوش الطائرة؟ ثمة ما سبق ذلك بكثير، لكنّ الهجمات تلك جاءت في ظل وهم استواء القوّة الأميركية، واستحالة اختراقها أو التجرّؤ عليها، والأنكى من ذلك، التجرّؤ على أهم رمزيتين تمثّلتا في «البنتاغون»، وبرجي مركز التجارة العالمي.
ثمة من ربّى ذلك الغول ذات تدخل في مكان ما من الشرق الإسلامي: أفغانستان كانت محطة أولى في نهاية سبعينيات القرن الماضي.
تناول «ذهنية الإرهاب» يتطلّب معرفة بالأنساق الفكرية والثقافية والاجتماعية والدينية والنفسية للمجموعات التي تُقرّر ذات ليل أن هذا العالم بحاجة إلى إعادة ترتيب! كيف؟ بمزيد من إشغاله بالخراب والدمار والفوضى. مادام الإرهاب والجماعات الإرهابية لا حدود معروفة لها على الخريطة، ولا نشيد وطنياً لها، ولا جيشاً نظامياً يمكن مُعاينته، حينئذ سيظل العالم لقرون، وليس لسنوات، مشغولاً بتحصين الحدود من شرّه، وهو هنا لا يجرؤ على مسألة وضع حدّ له أو القضاء عليه؛ إذ سيكون ذلك ضرباً من الهلوَسة في أعلى درجاتها.
سباق الإرهاب... الحروب
في تكريس ما بات عقيدة تتحكَّم في طمأنينة العالم، وتقرّر متى تضع حدّاً لها، ومتى تُشغل العالم بأن يعيش في الحدود الضيّقة من الأمن والأمان، وانعدامهما أحياناً، ثمة من يغضّ الطرْف عن الظاهرة في إيحاء بألَّا يد له فيها. الإرهاب الذي أصبح اليوم بموازاة التهديد الذي تشكّله الحروب العالمية، تلك التي يتم الإعداد لها في أقل استفزاز، وتحت أي مبرّر. لا يُولد المرء إرهابياً. البيئة كفيلة بأن تجعل منه ملاكاً أو تجعل منه شيطاناً ينافس الشيطان الذي نعرفه، ذلك الذي هبط من الجنة كي يعيث في الأرض فساداً وحروباً. نعرفه بالوسواس الخنَّاس؛ لكن كم من وسواس خنّاس في هيئة بشرية اليوم؟ لن ترى الشيطان مثلاً يرتدي حزاماً ناسفاً كي يختم مغادرة الحياة مع مئات وآلاف من البشر الأبرياء، ممن يمشون في الأسواق، أو في طريقهم إلى الدرْس، أو ربما سعياً وراء دفن جنازة، أو عرْس شحيح. الشيطان يترك تلك المهمّة لمن هم دونه، ودون الجنس البشري ممن ينتمون إليه ظلماً وعُدواناً، تماماً كالظلم والعدوان اللذين يُمارسان بنشوة بالغة.
هل ثمّة بقعة في العالم لم تطلْها يد الإرهاب العابر للحدود؟ ماذا عن القطبين الشمالي والجنوبي؟ من قال إن الإرهاب لم يطلهما؟ هذه المرة في صورة مدنية متوحّشة امتدّت آثارها من خلال الإرهاب البيئي إلى ما تبقّى من مساحات بكْر على هذا الكوكب.
11 سبتمبر 2001، كان بمثابة درس يجب الاشتغال عليه بعيداً عن الأفكار التي قد تنتهي صلاحياتها، تلك التي تتضمّنها بعض التعليقات في المقالات السياسية، أو التحليلات الإخبارية.
الاحتفال بزوال الامبراطوريات
بسّام حجَّار يختصر ذلك في مقدّمته للمقالات بالقول: «إنها ترسم صورة (الإمبراطورية) التي في سعيها لتوسيع دائرة مصالحها تحيط نفسها بهالة من الأفكار والشعارات والرموز والاعتقادات، ناظرة إلى نفسها كقوّة مهيمنة، خاسر من يتحدّاها، فتصبح هي سبب العنف ومصدره وهو عنف قاهر، يستند إلى قوّة قاهرة، عنف يُمارس باسم الشرعية التي تفرضها بقوتها، وهذا ما حصل حين تجاوزت الولايات المتحدة، مجلس الأمن ومعه الغالبية الساحقة من (أمم العالم المتحدة)».
المقالات تلك وهو تقرأ حوادث 11 سبتمبر، تقدم رؤية للمآلات التي يمكن أن تضعنا فيها ممارسة الغطرسة. الغطرسة من الجانبين، من جانب القوّة التي ترى أنها المكلفة بحراسة العالم والاضطلاع بالوصاية عليه، بحكم القوة غير المسبوقة التي تملكها، وجانب الجماعات الإرهابية التي ترى أنها تحمل صكّاً من الله لإعادة ترتيب العالم وفق همجيتها وتخلفها واستعدادها للذهاب إلى الأشواط البعيدة في إرجاع هذا العالم إلى سيرته الأولى، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وانفتاح الأسواق السوداء للاتجار بالأسلحة المحرّمة دولياً، تلك التي لم يكن من الصعب على المجموعات الإرهابية الوصول إليها، وملء ترساناتها بها.
حجَّار يستحضر هنا رؤية للفيلسوف الوجودي والكاتب المسرحي والروائي الفرنسي - الجزائري ألبير كامو (7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1913 - 4 يناير/ كانون الثاني 1960)، وكانت رؤيته صادقة حين اعترض على حرب الجزائر «ما من قضيّة تستحق أن يُقتل في سبيلها إنسان بريء»، ويعلق حجّار بالقول: «لكن ألبير كامو كان روائياً بريئاً، في زمن كان الهاجس فيه الاحتفال بزوال الامبراطوريات».
الهبوط في الجهة الخطأ
النص الذي نشرته صحيفة «لوموند» الفرنسية وحمل عنوان «ذهنية الإرهاب»، للفيلسوف والمحلل السياسي وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار (27 يوليو/ تموز 1929 - 6 مارس/ آذار 2007) والذي تُصنّف أعماله ضمن مدرسة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، قال عنه حجَّار بأنه يطرح مقاربة غير مسبوقة للفعل الإرهابي، وما يترتّب عليه من ردود.
وبالعودة إلى عنوان هذا الاستعراض الذي يثبِّت ما يكاد يشبه الحقيقة في أن ممارسة الإرهاب لا تنطلق من موقع العداء الأعمى، يؤمن بودريار بأن الأمر يتعدّى عملاً إرهابياً هنا أو هناك بدافع العداء أو الحقد على قوة عالمية مسيطرة «يبديه المحرومون والمستغلون، أولاء الذين هبطوا في الجهة الخطأ من النظام العالمي»، ويشير إلى أن هذه الرغبة الخبيثة كامنة حتى في ألباب الذين يُشاركون في منافع هذا النظام العالمي. «ذلك أن الحساسية حيال نظام نهائي، حيال كل قوة نهائية، هي لحسن الحظ شمولية. وكان البرجان التوأمان لمركز التجارة العالمي يجسّدان، أكمل تجسيد، ولأنهما توأمان بالذات، هذا النظام النهائي».
يُعيدنا بودريار إلى الوهم باستواء الغطرسة؛ إذ يرى أن الغرب، وقد تصرّف كما لو أنه في موقع الله (ذي القدرة الإلهية الكلية والشرعية والأخلاقية المطلقة)، يغدو انتحارياً ويعلن الحرب على نفسه.
يعمّق بودريار هنا الرمزية التي سبق وأن أشرنا إليها في ثنايا هذه الكتابة، بإشارته إلى أن الإرهابيين (كما الخبراء)، لم يتوقعوا انهيار البرجين التوأمين اللذين مثّلا، أكثر بكثير من ضربة البنتاغون، الصدمة الرمزية الأشد. «لقد شهد الانهيار الرمزي لـ (سيستم) بأكمله جرّاء تواطؤ غير مُرتقب وكأنه بانهيارهما من تلقائهما، كأن بانتحارهما هذا، انضم البرجان إلى اللعبة لكي يبلغ الحدث تمامه».
توليد الشروط الموضوعية
هل يقدّم بودريار هنا تبريراً لموقف العمل الإرهابي، أم أنه يقرأ بعين فاحصة سبب العلَّة وليس العلَّة وحدها، حين يتناول مسألة احتكار الموقف؟ يُوضح بأنه عندما يكون الموقف مُحتكراً، على هذا النحو، من قبل القوّة العالمية، وعندما نكون حيال هذا التركيز المذهل لكل وظائف الآلية التكنوقراطية والفكر الأحادي، فأي سبب آخر يمكن سلوكه غير التحويل الإرهابي للموقف؟ «إن السيستم نفسه هو الذي ولّد الشروط الموضوعية لهذا الرد العنيف المباغت. فباستئثاره بكل الأوراق، يُرغم الآخر على تغيير قواعد اللعبة». هذا الكلام عن النعوش الطائرة. هل تصلح مثل تلك الرؤية اليوم؟ أعني حين نتكلم عن «داعش»، اختصار ما يُسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام؟ تلك التي استطاعت أن تسيطر على أكثر من 40 في المئة من مساحة العراق، وما يقترب من تلك المساحة في سورية، مقارنة بالفارق بين الخريطتين السورية والعراقية، وذلك التمدّد الذي شهده التنظيم في ليبيا واليمن وتونس وأفغانستان ونيجيريا والصومال ومصر ولبنان والأردن، باعتباره الخزَّان الأكبر - عربياً - لمدّ التنظيم بالمسلحين؟ لم تعد المواجهة بين الغرب والإسلام. هي اليوم مواجهة تحدِّد من المسلم من الكافر في البيئة الواحدة والقطر الواحد! لا نتحدّث عن تكفير الأقليات في البلد الواحد، بل تفكير المسلمين الذين من المفترض أنهم متطابقون في إيمانهم بإله واحد، ورسول خاتم؛ إذ يُمكن للإرهاب أن يُمارَس عليهم في أقصى وأفظع درجاته إذا لم يتطابقوا مع الأطروحة التي قفزت بـ «داعش» إلى مقدّمة مشهد الأحداث العالمية، وعناوين نشرات الأخبار. التفجيرات وقطْع الأعناق والسبْي والتمثيل بالجثث كل ذلك لا يحدث هذه المرة في نيويورك أو لندن أو باريس أو مدريد أو روما. إنها في البلد الواحد الذي تهيّأت فيه ظروف لـ «داعش» وبقية المجاميع الإرهابية كي ينتقلوا من العمل تحت الأنفاق والسراديب إلى إعلان الإمارة والدولة وسك العملة ورفع العلَم وتشكيل الوزارة!
بوديار يرى أن الأمر لا يتعلّق لا بصِدام الحضارات، ولا بصِدام أديان؛ إذ يتعدّى بكثير الإسلام وأميركا اللذين تجري المحاولات لحصر النزاع فيهما لتوليد وهْم مُجابهة مرئية ووهْم حل بالقوة «صحيح أن في الأمر تضادّاً أساسياً، لكنه تضادّ يُبين، عبر طيْف أميركا (التي ربما كانت المركز السطحي، لكنها ليست، بمفردها، تجسيد العولمة)، وعبر طيْف الإسلام (الذي هو أيضاً، ليس تجسيد الإرهاب)، أن العولمة المنتصرة تخوض صراعاً مع ذاتها».
إيكو: سيناريوهات قيامية
نص الفيلسوف والروائي وعالم الاجتماع الإيطالي الراحل، أمبرتو إيكو (5 يناير 1932 - 19 فبراير/ شباط 2016م) «سيناريوهات قيامية للحرب الشاملة»، والذي نقله عن الإيطالية صالح بشير، يضعنا أمام خريطة الغلَبة للغرب في التاريخ والحاضر البعيد والقريب، ولا نحتاج إلى كبير جهد كي نتكهّن بالمستقبل. غلبته على الشرق، وهو بذلك يضعنا بالضرورة أمام خريطة للوهن والضعف والإذعان؛ حتى على مستوى الحاجات التي توهم العالم بأن ثمة حداثة امتدت إلى عروق الشرق بفعل آخر صيحات التقنية وأجهزة التجسّس أيضاً، بينما الواقع يؤكد أن كل ذلك محاولة لتحديث الحياة، ولا علاقة لذلك بالحداثة كفعل متحوّل ومتراكم يتطلَّب بالضرورة فعلاً وإضافة لكل ما نراه متحولاً في عالم اليوم.
ربما من بين السيناريوهات القيامية التي يقارب من خلالها إيكو شكل ومضمون هذا العالم بعزلة طرف عن الآخر. باتخاذ موقف ما من الآخر: المقاطعة على سبيل المثال سيناريو من بين تلك السيناريوهات. بعد حوادث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأميركية يعلق في نصه المطول استحضاراً لبعض السيناريوهات القيامية؛ إذ شهد العالم إذا ما تذكَّرنا حرب العام 1973، والمقاطعة المؤقتة من خلال منع تصدير النفط إلى الولايات المتحدة، ذلك الذي تصدّت له دولتان: المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، لتتبعهما دول أخرى، وإن كانت مثل تلك السيناريوهات بعيدة التحقق في ظل تجزئة المُجزَّأ أساساً في عوالم العرب، فمن الصعب اليوم الحديث عن عالم عربي واحد «ماذا لو أدّت أزمة النفط إلى توقف كل شيء، إلى انعدام الكوكا كولا والبيغ ماك، وإلى رؤية السوبر ماركت قاعاً صفصفاً، غير حبّة طماطم هنا، وشريحة لحم استنفدت وقت صلاحيتها هناك، على ما شهدنا في بلدان الشرق الأوروبي في لحظات أوج أزمتها؟ وإلى أي درجة يمكن أن يتماهى مع الغرب زنوج هارلم، ومحرومو البرونكس، وشيكانوس كاليفورنيا، وكلدان أوهايو»؟
دريدا: ما هي الدولة المارقة؟
يتساءل صاحب نظرية التفكيك، الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (15 يوليو/ تموز 1930 - 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2004) حول ما تؤول إليه مفاهيم كالعقل والديمقراطية، وكذلك مفاهيم كالسياسة والحرب والإرهاب، عندما يفقد الشبح القديم لسيادة الدولة صدقيته. يكتب في نصه، وفي صيغة تساؤل أيضاً «ماهي (الدولة المارقة)»؟ سؤال يطلع من أكوام، بل من جبال من الالتباس. هل هو التباس فعلاً؟ أم أنه يراد له أن يكون كذلك؟ دريدا نفسه يضعنا أم الإثبات والنفي في هذه المسألة «لم يعد هناك إذاً سوى دول مارقة، ولم يعد هناك دول مارقة»! مشيراً إلى أنه نظراً لكون المفهوم نفسه قد بلغ حدّه ونهاية حقبته وهي النهاية التي لا مثيل لفظاعتها. يضعنا أمام الآلية التي تعاطت معها حقبة كلينتون، موضحاً أن الذين سعوا في عهده، إلى تسريع وتكثيف هذه الاستراتيجية البلاغية، وأفرطوا في استخدام تعبير «الدول المارقة» المسفّه، هم أنفسهم الذين صرّحوا في النهاية، علانية، في 19 يونيو/ حزيران 2000، أنهم عازمون على التخلّي، في الأقل، عن العبارة. تم استبدال تعبير «الدول المارقة» بـ «State of concern» «الدول المُقلقة»، الدول التي تثير لدى الولايات المتحدة القلق «لكنها أيضاً دول يجب أن تشغل بالنا».
المقاربات الثلاث لم تكن بمنأى عن قراءتها وتحديدها للسياقات التي جعلت الإرهاب اليوم جهة سابعة، لا بفعل طرف يتولّاه ويُشرف عليه ويمارسه فحسب، بل بفعل الدول التي أوجدت الظروف والتبريرات لقيامه. هل نتفق مع الرؤى تلك جميعها؟ ليس بالضرورة؛ إذ تظل قراءة من الخارج، على رغم أهميتها. القراءة من الداخل: الإسلامي، العربي، لم تتوافر على صرامتها ومنهجيتها وجدّيتها بعد، في كل ما ضخَّته المطابع منذ 11 سبتمبر وحتى اليوم. ثمة هروب حقيقي من مواجهة المشكلة حتى على مستوى استخلاص الدرس!