أحدث الانقضاض الأميركي - والغربي - على العالم العربي والإسلامي، تأثيرات قوية وتحولات عميقة، في الحراك السياسي الاجتماعي الثقافي، وظهرت بوادره سريعة في أوساط التيار السياسي الإسلامي بشكل أدق... فلقد أدت المنازلة العنيفة، بين بعض فصائل التيار الإسلامي الراديكالي، «الجهاد المسلح» بقيادة تنظيم بن لادن (القاعدة) فضلا عن تنظيمات أخرى متناثرة في الشرق والغرب، وبين الولايات المتحدة الأميركية، عبر هجمات سبتمبر/ أيلول الانتحارية على واشنطن ونيويورك، إلى فتح المعركة على مصراعيها، وإلى استخدام الأسلحة المتاحة للطرفين من كل نوع، من المتفجرات والصواريخ إلى الضغوط السياسية إلى الحملة الإعلامية الشرسة، التي لم تفرق بين الإسلام والإرهاب بل دمجتهما معا في تصرف تعسفي حاقد!
فإن كانت هذه المنازلة قد انعكست على الأميركيين خوفا وفزعا وثأرا وانتقاما حتى التوحش، فقد انعكست على الشعوب والدول العربية والإسلامية سلبا، أيضا خوفا وفزعا ولكن خضوعا واستسلاما للمتوحش الأميركي وعنف انتقامه، ورغبته في إحداث تغييرات جذرية في هذه الدول، لا تسمح لتخلفها واستبدادها بأن تنتج إرهابيين جددا.
وبقدر ما تمكنت موجة الانقضاض الأميركي المسلح، من قصم ظهر التنظيمات الراديكالية الإسلامية، وخصوصا القاعدة وطالبان، وتفكيك عديد من شبكات التطرف والإرهاب في أكثر من دولة، من باكستان وأندونيسيا شرقا، إلى ألمانيا واسبانيا غربا، مرورا باليمن والصومال والسودان، بقدر ما أُصيب التيار السياسي الإسلامي في عمومه بصدمة هائلة وحرج شديد.
جاءته الصدمة والحرج من مصدرين أو ثلاثة، جاءته أولا من التنظيمات الراديكالية التي اعتنقت العنف ومارست الإرهاب على مدى السنوات الماضية، من تنظيمات الجهاز والجماعة الإسلامية والتكفير والهجرة، إلى تنظيمات طالبان والقاعدة، وجاءته ثانية من جراء حدة الانقضاض الأميركي التي وضعت الجميع ـ معتدلين ومتطرفين ـ في سلة واحدة وتحت مطرقة واحدة، وإن اختلفت الضربات، ثم جاءته ثالثا من جانب نظم الحكم القائمة في الدول العربية والإسلامية، التي وجدتها فرصة مناسبة للإجهاز على حركة التيار السياسي الإسلامي في عمومه، والانتقال من مرحلة حصاره واحتوائه إلى مرحلة القضاء عليه، في اعتباره من أقوى التيارات السياسية الحركية النشطة القادرة على استقطاب مشاعر الناس باسم الدين، وبالتالي المتحدية للحكم!
وأمام هذا الهجوم الثلاثي المكثف، وجد التيار السياسي الإسلامي، خصوصا الفصائل المعتدلة منه، نفسه في حرج تاريخي وموقف عصيب، يحتاج إلى حنكة شديدة وسرعة تلبية عالية، حتى يتمكن من التعامل مع هذه الضغوط والمتغيرات المحلية والخارجية من ناحية، وحتى يتواءم مع نغمة الديمقراطية العالمية السارية والاندماج في إطارها من ناحية أخرى...
ونظن أن النجاح الذي أحرزته التنظيمات والأحزاب السياسية الإسلامية، أخيرا في أكثر من دولة، مثل تركيا والمغرب والبحرين وباكستان، بعد أن اندمجت في عملية التطور الديمقراطي، يفتح الطريق أمام نماذج أخرى في بلاد أخرى، ويلقى دعما وتأييدا حتى من الولايات المتحدة، التي تقول إنها تحارب التطرف والإرهاب «الإسلامي»، لكنها تشجع الاعتدال والتطور الديمقراطي «الإسلامي».
وقد نرى تكرارا لهذا النموذج قريبا في دول عربية وإسلامية أخرى، تدفع بالتيار الرئيسي للحركة السياسية الإسلامية إلى خطوط الاعتدال والاندماج والتدجين، بدلا من التهميش والعزل ومن ثم اليأس فاللجوء إلى القوة والعنف نزولا إلى الإرهاب... ربما تصبح أندونيسيا ـ أضخم دولة إسلامية ـ هي الهدف التالي في هذا الاتجاه، لكن غيرها ليس بعيدا على كل حال!
هكذا جاءت الحوادث العاصفة الأخيرة داخليا وخارجيا، لتصنع الحركة السياسية الإسلامية في مواضع التحدي ومواقف الضغوط والمحاصرة من ناحية، وفي مواضع الإغراء ومناطق الجذب من ناحية أخرى، وها هي تقف الآن في منعطف صعب للغاية، بين العودة إلى الراديكالية والعنف المسلح، الذي جربته بعض فصائلها خلال العشرين عاما الماضية، وبين الاندفاع في طريق التطوير والتحديث - الفكري والمنهجي - ومن ثم الاندماج في حركة المجتمعات العربية الإسلامية الساعية «طوعا» نحو الديمقراطية المحدودة، أو المضغوط عليها بقوة من الخارج للتحول نحو الديمقراطية المفتوحة.
والواضح أن اجتهادات متراكمة داخل هذه الحركة، ساعدت في التحول الملحوظ من مرحلة «الولاء المطلق» بالقسم على المصحف طاعة في المنشط والمكره، على نحو ما رسخه الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين العام 1928، إلى مرحلة حرية الاختلاف وتعدد الاجتهادات والرؤى والرأي.
كذلك هناك تباشير الانتقال من راديكالية العمل الإسلامي السياسي طلبا للحكم وسعيا لإقامة نظام إسلامي بديلا للنظم الكافرة، على غرار ما حاولته نماذج الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، وجبهة الإنقاذ والجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، وطالبان في أفغانستان، والجبهة الإسلامية القومية في السودان وغيرها، وجربت خلاله كل أساليب العنف المسلح والقتل الدموي في صدامات مروعة مع السلطات الحاكمة.
إلى بوادر الانخراط من جديد في الحراك السياسي الاجتماعي العام، الذي يتأرجح فيما بين شواطئ التحول الديمقراطي الخجول، ومراسي المركزية والتحكم والديكتاتورية السافرة أو المقنعة... وجاءت الحوادث الدولية والمحلية الراهنة فدفعت بالرياح في الشراع، الأمر الذي أفرز أمامنا أحزابا سياسية إسلامية معتدلة، تحترف الانتخابات وتعلق إيمانها بالديمقراطية، وتضع فلسفتها المعلنة في مربع «العدالة والتنمية»، لتطرح نفسها بالتالي بديلا للحركة السياسية الإسلامية التقليدية، التي شاخت أفكارها وقياداتها ـ مثل الإخوان المسلمين ـ من ناحية، وبديلا للتنظيمات الإسلامية الراديكالية التي جلبت المآسي السلبية على الإسلام والمسلمين عموما.
ونظن أن نجاح هذه التنظيمات والأحزاب المعتدلة، في أكثر من دولة عربية وإسلامية سيغري في أماكن ودول أخرى، ويضع كذلك التيار العام للحركة السياسية الإسلامية في مواضع التحدي والاستجابة... فإما أن تظل متمترسة خلف رؤاها وأساليبها وقياداتها التي ترهلت وشاخت وفاتها القطار، أو تعود فتنخرط في مهاوي العنف والتطرف، وإما أن تطور أفكارها وتحدث أساليبها وسياساتها، فتنخرط في الحراك المجتمعي السياسي النازع نحو الديمقراطية والعدل والتنمية الإنسانية، التي تحفظ للإنسان كرامته وحقوقه وحرياته وفق المعايير الدولية!
وإذ نستثني الوضع الفلسطيني بتياراته الإسلامية والعلمانية، المعتدلة والمتشددة، باعتبارها تخوض حرب تحرير واستقلال ومقاومة شرعية، ضد عدو صهيوني وهو جوهر العنف والإرهاب وأساسه، فإن الحركة السياسية الإسلامية في غير ذلك من الدول العربية والإسلامية، مطالبة من الآن فصاعدا بإثبات رغبتها وقدرتها على التطور والاندماج، بعد عقود من العزل والانعزال.
وإذا كانت أميركا والغرب عموما، يحمّل الدول والحكومات العربية والإسلامية، المسئولية الكاملة عن تفريخ الإرهابيين وإنتاج الإرهاب والعنف والتطرف، بسبب سياسات التحكم والاستبداد والتخلف والفقر، فإن تناسل وتوالد تنظيمات العنف والإرهاب «الإسلامية الشعار» يتحمل جزءا رئيسيا من مسئوليته التيار السياسي الإسلامي العام أيضا، من الجهاز الخاص للإخوان المسلمين، إلى ميليشيات الثورة الإيرانية، ومن الجهاد والتكفير والهجرة، إلى طالبان والقاعدة، تلك التي مارست العنف المسلح، وصولا إلى مناطحة الوحش الأميركي، الذي كان ينتظر فرصة الانقضاض على الجميع. وها قد جاءته الفرصة على طبق من ذهب فانقض بلا رحمة أو تمييز.
ولذلك فإن مواجهة هذا الانقضاض، المصاحب لحملة غربية عاتية ضد الإسلام، وتحض على كراهية العرب والمسلمين، لن تكون سهلة بإعلان التوبة عن العنف أو الرغبة في الاستنارة بالمناخ الديمقراطي حتى لو كان محدودا، لكنها تحتاج إلى جراحات أساسية وتحولات جذرية في أفكار وأساليب الحركة السياسية الإسلامية، تكسبها صدقية ليس فقط لدى أميركا والغرب الهاجم، ولكن أساسا داخل مجتمعاتها العربية والإسلامية المتخوفة والمتشككة!
ومن بين هذه الجراحات الرئيسية المطلوبة، إعادة صوغ البرامج السياسية للأحزاب الإسلامية، بدرجة تتواءم مع أفكار ومفاهيم وأساليب التطور الديمقراطي الذي صار حتميا في هذا القرن، وبطريقة تتلاقى مع المطالب الحياتية والمتاعب اليومية للشعوب، خصوصا مقاومة زيادة مساحة الفقر والبطالة والكساد، والتعددية الفكرية والسياسية، وحقوق المشاركة، ودور المرأة في مجتمعات مسلمة، فقدت حتى حقوقها الأساسية التي جاء بها الإسلام.
والواضح أن نجاح الأحزاب الإسلامية أخيرا في أكثر من دولة كما سبق أن أوضحنا، قد اعتمد على هذا التحول الجوهري، بديلا للشعار العام «الإسلام هو الحل»، الذي كانت التيارات السياسية الإسلامية قد رفعته على مدى العقود الماضية...
إضافة إلى ذلك فإن هناك تحديات أخرى أمام هذه التيارات، إن كانت راغبة في التأقلم والتعايش والمشاركة في التحول الديمقراطي المنشود، أهمها تجديد الفكر السياسي وتحديث الخطاب الديني، وتجديد شباب القيادات «التاريخية» التي شاخت، وتغيير القيادات «المغامرة» التي تورطت في العنف المسلح، وتقديم نماذج قيادية جديدة منفتحة على التطورات المحلية والعالمية، مستفيدة بموجة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحياته التي تعم الدنيا بأسرها، ومستغلة أيضا وسائل الإعلام والاتصال التكنولوجية الحديثة، التي زعزعت - ضمن تأثيراتها الهائلة - سياسة القبضة الحديدية، سواء من جانب النظم الحاكمة أو من جانب القيادات التاريخية «الإسلامية» المهيمنة الآمرة الناهية وفق مبدأ السمع والطاعة العمياء!
وأخيرا...
نحسب أن هذا الحديث يثير حساسيات شديدة، سواء لدى النظم الحاكمة المتوجسة من الحركة السياسية الإسلامية المتربصة بها، أو من جانب هذه الحركة ذاتها بحكم وقوعها هذه الأيام تحت ضغوط وتحديات صعبة...
ونحسب أن الطرفين المختلفين، يقعان معا تحت ضغوط أميركية رهيبة، تبدأ باتهامهما معا بالمسئولية المباشرة عن انفلات الإرهاب والعنف والتطرف، ولا تنتهي بمطالبتهما بإجراء إصلاحات جذرية ليس فقط في نظم الحكم وتوزيع الثروة، ولكن تطرفا حتى الحديث العلني عن «تحديث الإسلام» نفسه، مع ما يثيره هذا من حساسية متزايدة! لكننا ننطلق هنا في معالجة بعض جوانب هذا الموضوع الشائك من منطلق مختلف، قوامه المطالبة القوية والسعي الحثيث لإصلاح أحوالنا بأيدينا، استجابة لمطالب ملحة وحاجات ضرورية، تنبع من داخل مجتمعاتنا التي تعاني الفقر والتخلف والاستبداد، والتي تختزن مشاعر الغضب والكراهية والتمرد، وليس الأمر مجرد استجابة لضغوط أميركية أو إغراءات غربية، ترى أن من مصلحتها الحيوية، تعديل وتحديث وتطوير الإسلام والعرب والمسلمين، ودفعهم بالقوة الجبرية نحو المسار الذي تريده هذه الضغوط والإغراءات! وفي هذا الإطار، لا نستطيع أن نتجاهل الدور الجوهري الذي يمكن أن تقوم به الحركة السياسية الإسلامية، المعتدلة والمستنيرة، في اعتبارها مكونا رئيسيا من مكونات الحراك المجتمعي العام، جنبا إلى جنب مع باقي المكونات الكثيرة الأخرى، وخصوصا الأحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات الأهلية والمدنية، الساعية لفك العقدة المصطنعة بين الإسلام والديمقراطية... تلك العقدة التي أصبحت سلاحا هجوميا في أيدي صناع الكراهية ومنتجي العداء والتطرف في الغرب عموما هذه الأيام!
وفي هذه الحال، لا يكفي أن نبادلهم عنفا بعنف ولا كراهية بكراهية، إنما المسألة أعمق والمسئولية أكبر، تحتاج منا نحن إلى ما هو أهم وأخطر... تحتاج كما أسلفنا إلى جراحات جوهرية في مسار حياتنا ومسيرة أوطاننا!
مدير تحرير صحيفة «الأهرام
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 82 - الثلثاء 26 نوفمبر 2002م الموافق 21 رمضان 1423هـ