العدد 82 - الثلثاء 26 نوفمبر 2002م الموافق 21 رمضان 1423هـ

شخصية العراق

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في كتابه عن «شخصية العراق» يتحدث المؤرخ والباحث الاجتماعي علي الوردي عن أزمة العراق التاريخية. فالعراق برأيه من الدول التي تعاني دائما اضطرابات داخلية بسبب تعرضه المستمر لموجات من الهجرة البدوية. تلك الهجرات جعلت من تضاريس العراق الاجتماعية دولة غير مستقرة، فهو ما ان يستوعب الهجرة الجديدة حتى يتعرض إلى أخرى سواء من البادية العربية أو من دول الجوار (بلاد فارس، ومرتفعات الاناضول).

هذه الهجرات الدائمة جعلت من العراق دولة غير مستقرة سياسيا. فالمجتمع نصف حضري - نصف بدوي، نصف مستقر في المدن والحواضر ونصف ترحالي في أطرافه. فتعاقب الهجرات والنزوح الدائم إليه من محيطه الجغرافي المتفاوت في تكوينه الطبيعي من بداوة صحراوية وبداوة جبيلة (مرتفعات) سببت له الإضطرابات الداخلية.

حاول الوردي في كتابه ان يشرح شخصية العراق لتفسير الاضطرابات السياسية الدائمة، وتوضيح العوامل التاريخية - الاجتماعية لظهور الدولة المركزية. والعراقي كالعراق هو أيضا يتركب من شخصية منقسمة بين وضعين جعلته يميل إلى القسوة في تصرفاته اليومية. فالعراقي برأي الوردي يتميز بشخصية عنيفة ولا يخضع بسهولة إلى قوانين الدولة، لذلك جاءت المركزية كشرط تاريخي لخضوعه أو اخضاعه من طريق القوة. فالاستبداد برأي الوردي مسألة اجتماعية - تاريخية وهي بناء هرمي تنظيمي يتألف من سلسلة حلقات متراتبة بهدف الامساك بالتنوع وتوحيده بأسلوب عنفي لمنع الانقسامات والتشرذم إلى دويلات مستقلة وغير مستقرة.

استخدم الوردي المنهج الخلدوني (مقدمة ابن خلدون) ودمجه بمناهج علم الاجتماع الحديث لقراءة تاريخ العراق السياسي. فانطلق من فكرة البداوة ونزوع العصبية البدوية نحو الاستقرار (الحضارة).

والعراق برأي الوردي هو هذا المزيج التاريخي - الجغرافي بين البداوة والاستقرار، بين الشوكة والدعة، وبين الميل إلى التوطن والهجرة (الترحال) الدائمة. فالعراق ما ان يستقر سياسيا ويبدأ الميل إلى الدعة يتغلب عنده على الخشونة، حتى يتعرض إلى موجة (هجرة) بدوية جديدة من جنوبه أو شرقه أو شماله تعكر مزاجه الاجتماعي وتدفعه دفعا نحو الاضطراب أو اللااستقرار. وتبدأ من جديد معركة لاستيعاب الوافد واحتضانه وتثبيته وما ان يستقر ويبدأ بالاندماج في النسيج الداخلي يتعرض مجددا إلى موجة (هجرة) جديدة تعيده إلى حيث بدأ. فالتجدد الدائم أعطى شخصية سياسية مضطربة للعراق. فالحياة غير مستقرة على وضع اجتماعي ثابت تعطي مهلة زمنية للدولة لتأسيس نفسها في إطار تاريخي يفسح المجال لتناغم المجتمع وانسجامه في درجات تطوره.

قال علي الوردي هذا الكلام عن شخصية العراق وثنائية الاستقرار - البداوة، والحضارة - الهجرات، والثبات - الترحال قبل سنوات من وصول حزب البعث إلى السلطة. فالوردي لم يكتب كلامه لتفسير فترة حكم صدام حسين وشرحها وانما لتوضيح شخصية العراق التاريخية وتكوينه الاجتماعي.

عاش الوردي فترة طويلة من عمر دولة صدام وشهد في تلك الأيام الكثير من الاضطرابات الداخلية والحروب بين المركز والأطراف وتعرف على الكثير من ألوان المؤامرات والتصفيات والانقلابات الحقيقية أو المفتعلة أو المفترضة. شهد الوردي أيضا الحرب مع إيران ومعارك الدولة وصراعها الداخلي سواء في شمال البلاد أو جنوبها. ولاحظ تسلط الدولة على المجتمع، وسيطرة الحزب على الدولة، وتحكم القبيلة بالحزب، وتمسك العشيرة بأهداب القبيلة، وتمزيق «الدولة» إلى أجزاء متنافرة وأشلاء متنافسة لا يجمعها إلا القرار الواحد الصادر عن قوة مركزية مركزة في رجل واحد يأمر وينهي. فهو يملك قرار الحرب وقرار السلم، وهو في النهاية يقرر مصير الدولة ومستقبل الشعب.

مع ذلك يمكن القول إن ما قاله الوردي عن العراق يوضح نصف الحقيقة. النصف الآخر يقع خارج دائرة هذه الدولة. فالعالم اليوم ومنذ أكثر من 500 سنة دخل عصر التدويل (العولمة المعاصرة). والمنهج الخلدوني (مضافا إليه بعض المناهج الاجتماعية الحديثة) لا يكفي لقراءة تاريخ البلد بمعزل عن المحيط... والمحيط لا يمكن فهمه من دون قراءة الفضاء الدولي الذي يؤثر في السياسات والقرارات. فالخارج في عصر التدويل تحول أحيانا إلى لاعب داخلي يكسر التوجهات ويعيد انتاجها باتجاهات متضاربة.

قرأ الوردي تاريخ العراق المعاصر في ضوء المنهج الخلدوني - التاريخي لشرح مسألة العنف والاضطراب في شخصية الدولة والمجتمع. فهل يمكن ان نقرأ تاريخ الولايات المتحدة المعاصر، كذلك تاريخ دولة «إسرائيل» في ضوء المنهج نفسه: الاستقرار، الهجرات، الاضطراب؟ هذا السؤال بحاجة إلى قراءة مستقلة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 82 - الثلثاء 26 نوفمبر 2002م الموافق 21 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً