للكتاب عندي حظوة ومعزة خاصة، وبيني وبينه علاقة يسودها الإغواء، وهو الشغف والولع الذي يلازمني باستمرار.
ارتسمت بدايات علاقتي الحقيقية بالكتاب يوم تجرأت في صغري وسطوت بهدوء على مكتبة خالي في بيتنا العود. تسللت أصابعي بين كتبه المرصوصة بشكل مرتب، والتقطت كتابين منها دفعة واحدة، هما أول ما بدأت بهما مسيرة القراءة؛ رواية «الأم» لمكسيم غوركي، و»زويا وشورا» لمؤلفها ل. كوسموديمانزكاي، ومن شدة إعجابي بأبطال الروايتين لم تهن على نفسي إرجاعهما، فقرّرت الاستحواذ عليهما نهائياً! كما سحبت معهما كتاباً ثالثاً على الطريق وهو «البؤساء» لفيكتور هوغو، وبقي الجميع في عهدتي حتى هذه اللحظة، حيث أعدت وقتها قراءتهم عدة مرات ومرات!
قبلها كنت أسطو على بعض قصص الأطفال والكتب المدرسية القديمة، ومجلة «العربي» التي كانت تشتريها أختي الكبرى من تحويشة مصروفها اليومي، وتجمع أعدادها بشكل متسلسل ومرتب على الرف. وكنت أتحيّن خروجها من البيت، وأقتحم مملكتها وأبدأ تصفح أعداد المجلة وأنسى مرور الوقت، فقد كانت تعجبني التحقيقات التي تحتوي على صور المدن والعواصم العربية بمعالمها وتاريخها، وأتخيّل نفسي رحالةً مع المحرّر الذي كتب تلك التحقيقات، لكن غالباً ما ينتهي سطوي على ممتلكات أختي بخناقة وتوبيخ حيث أُتهم بسرقة المجلة، فكل من في البيت يحرص على أن تكون له ملكيته الخاصة في هذا الشأن أو غيره.
عمتي هي الأخرى تركّز اهتمامها على المجلات، لاسيما مجلة «الحوادث» و»حواء» و»الشبكة» التي كانت تشتري أعدادهم بانتظام؛ لكن عمتى كانت سخية للغاية وتسمح لي بتصفحها كما أريد؛ بل وأحياناً أسطو على بعض صفحاتها بالقص والنتف ومن غير علمها و»ألشط» ما أريد منها، وأظنّ بأنها كانت تعرف وتتغاضى. عالم الكتب والدوريات كان بالنسبة لي ارتحالاً إلى الأفق البعيد... إلى عالم الخيال والمتعة والإرتواء.
حين أدمنت القراءة، شعرت بالحسرة على عدم امتلاكي المصروف الكافي كي أغتني بما أريد من الكتب التي أحبها، بدأت رحلة الاستعارة من المكتبة العامة حين سمح لي الأهل بالذهاب لوحدي سيراً على الأقدام، وهناك لا مجال للسطو؛ إنما بدأت أتعلّم سلوك الانتظام في مواعيد إرجاع الكتاب سالماً معافي دون خربشات أو تمزيق أو مسّ بمحتوياته، فالمسألة صارت مسئولية، وأي نوع من الاعتداء على ممتلكات الغير يعني الحرمان النهائي من فرصة الحصول على الكتاب؛ بل وتشويه السمعة. ويبدو إنه وبسبب محدودية الحالة المادية للناس في ذاك الزمن، راج سلوك استعارة الكتب من الصديقات والزميلات في المدرسة والحيّ، وباتت تُتداول آنذاك أسماء عرفت بين الصديقات، وممن لديهن حب القراءة والقدرة المادية في سرعة اقتناء الجديد من الكتب والإصدارات، وباتت معها محاولات التقرب إليهن حثيثة؛ كي تفتح أبواب الاستعارة وتبادل المعرفة من خلال الكتب.
في متون الكتب قرأنا القصص والحكايات، فرحنا وبكينا، وأصابنا الخوف والهلع جراء قصص الجريمة، وحلّقنا بعيداً في أحلام اليقظة الوردية مع أبطال روايات إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وغيرهما الكثير، فحلمنا بفرسان يمتطون الأحصنة البيضاء وهكذا، حيث اقتصر حالي كما غيري في مجال المعرفة على هذا النمط من القراءات والاطلاع، حتى ذهبت للدراسة في الجامعة بالخارج، فكان عالماً مختلفاً، وفي كل كلية من كليات الجامعة ما لا يقل عن مكتبتين، إحداهما للكتب والأخرى للصحف والدوريات، فصرت أقضي وقتاً طويلاً وفي أثناء الفراغ بين المحاضرات وبعد الدوام في تلك المكتبات المريحة للنفس، والتي كانت تجود علينا بسخاء وبكل ما تهفو إليه النفس وينقب عنه العقل.
كنت أعشق ارتياد مكتبات الجامعة، وأحلم بأن تكون لدينا مكتبات مثلها، فهناك يمكنك أن تجد كل ما ترغب وما هو جديد، ولأنني كما غيري اجتذبتنا التيارات الفكرية والسياسية وحركت عقولنا وعواطفنا، بدأت أقرأ في الفلسفة والتاريخ والاجتماع، كما استمتع بفيض المعرفة في حقول السياسة والاقتصاد والأدب، فكان الكتاب بين يدي منذ أول النهار وحتى آخر سويعات المساء وقبل النوم، واعتدت كما غيري على عادة حمل كتاب في حقيبتي الدراسية أو النسائية لأقرأه، وصارت سويعات القراءة وجبة يومية مقدسة تأتي في إطار مملكتي الخاصة، التي لا أفسح المجال لأيٍّ كان للسطو عليها.
هناك وأثناء الدراسة، سنحت لي فرصة اقتناء الكتب المتنوعة، وفي فترة ازدهار الجامعة ومكتباتها التي ضمت كنوز المعرفة الثمينة، تعرّفنا على معارض الكتب السنوية التي تنظم داخل أسوار الجامعة وخارجها، وصار طقس ارتياد هذه المعارض ومعها المكتبات لشراء الكتب المتنوعة جزءًا لا يتجزأ من سلوكياتنا وبرامج رحلاتنا الطلابية في الخارج. وبهذا بدأ تدريجاً التراكم الكتبي في مكتبتي الصغيرة، وحين التقيت مع الشريك، كان الكتاب رسول محبة وعهداً بيننا، بل ومحطة تتجدّد في مسيرة حياتنا، وقد سعدت كثيراً حين اكتشفت لأول مرة بأن لديه مكتبة صغيرة تحتوي على ما لذّ وطاب من الكتب، فكانت فرصةً جميلةً بأن أجمع ما عندي وعنده ونؤسس مكتبتنا المنزلية، التي نفخر بها اليوم وبما تحتويه، فهي جزء لا يتجزأ من كينونتنا وأيامنا الجميلة.
وكل ما يقلقني اليوم هو المصير الذي ستؤول إليه بعد رحيلنا. هل سيكون مصير الكتب التكديس في صناديق يغطيها الغبار تودع لفترة في المخازن، ومن بعدها إلى صناديق القمامة؟ أم سيكون مصيرها الإهداء إلى المكتبات العامة في البلد؟ وهل سيقوم ورثتنا بتبنيها؟ أم سيقسو عليها قلبنا يوماً ما ونعرض كتبها للبيع في معارض الكتب المستعملة كي يتم تدويرها والاستفادة منها؟
السؤال عن مصير المكتبة المنزلية وما تحتويه من نفائس الكتب والمقتنيات يقلق الكثير من المثقفين والباحثين، ولا أظن أن لديّ أو لديهم إجابة جازمة على ما يدور في خلدهم من توجس. وما يهمني اليوم هو أن شغفي يزداد بصديقي الكتاب، وأنني لازلت أحب الكتب وأعشق صحبتها، وأنتقي منها ما أحبّ وما يشعرني بالزهو وما يضيف لي الكثير، فالكتاب صديق ومحبة، وإغواء ونعمة... ولكن عن أيّ كتاب نتحدث؟
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5339 - الأربعاء 19 أبريل 2017م الموافق 22 رجب 1438هـ
حلت مكان المكتبة الموسوعة المعرفية : الانترنت. ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بحريني