العدد 5338 - الثلثاء 18 أبريل 2017م الموافق 21 رجب 1438هـ

قصة قصيرة... موعدٌ في الجنة

محمد بوثران - قاص جزائري 

تحديث: 12 مايو 2017

حدث كل شيء بسرعة... حتى أنه لم يجد الوقت الكافي ليبتعد ولو نصف متر آخر قد يجنّبه خسارته الأكبر، في حين كانت المدينة تقدّم آخر ضحاياها، وتوقع شهادة عجزهم الطبّي على ورقة واحدة تحمل أكثر من عشرين اسماً... كأي مقبرة جماعية تحترف المدن العربية طقوس افتتاحها، تماماً كمرقص شرقي جديدٍ مقابل للمسجد الوحيد الذي تحاصره الحانات من كل جانب.

كان شارع "ديدوش مراد" الذي يحتفظ قسراً بتسميته الفرنسية القديمة "les R4" يستيقظ كعادته على صوت آذان الفجر... يخلع بتكاسل متعمّد معطف السواد الذي تدثر به ليلة كاملة، ويقعد إلى جانب بائع التبغ العجوز دائم الشكوى. أو يلتقط مع طيور الحمام فتات الخبز المتساقط من نوافذ نصف مشرعة تطلّ من إحداها سيدة في الأربعين لم تكلف نفسها عناء تسريح شعرها... تنفض سجادها المطرّز بنمنمات مغربية بارزة، غير آبهة لنوبة العطاس التي تصيبها. وعلى شرفة مقابلة، سيدة أخرى تفتتح يومها بعادة صباحية مغايرة تماماً... فمن تحت شرفات البيوت السكيكدية أنت أمام احتمالين لا غير، إما أن تتعود استنشاق ذرات الغبار التي يتحسس أنفك منها... وإما أن تحترف العبور الرشيق تحت الشرفات تجنباً لما قد يتقاطر من دلاء النساء المدمنات على طقوس تنظيف الأرضية كل ساعة.

أمام زائر غريب يدخل سكيكدة أول مرة، اصطفت الأقواس الإسمنتية للممر في تناسق مبهرٍ... وهي ترافقه إلى نهاية الشارع، كحبيبة تودّع حبيبها وشيء سريّ داخلها يطلب منها أن تستبقيه دقائق أطول، لكنها تكتفي بالدعاء له وهو يضع قدما أولى خارج القلب. متجها شطر شاطئ "سطورة" الذي استيقظ هو الآخر مع أولى خيوط الضوء... بعدما عاد صيادو السمك إلى الميناء محمّلين بصناديق السردين الذي تشتهر به المدينة.

استند بيد متعبة إلى القوس الهشّ ليلتقط أنفاسه... وهو يقرأ إعلاناً ورقياً يبدو أنه أُلصق قبل أكثر من سنة بالجدار الأسمنتي، دون أن يكلف أحد المارة عناء تمزيقه كما يحدث غالباً... "شاطئ سطورة بسكيكدة جنة الله في الأرض..." وربما فكّر في صحة هذه الجملة الإشهارية، قبل أن يتهم نفسه بالجنون... فرصيف فوضوي كهذا لن يوصله حتماً لأية جنة.

 

وقبل أن يتجاوز آخر قوس... هزّ كيانه صوت ارتطام عنيف. وانطفأت الأضواء من حوله.

بعدها بيوم واحد مرّ بطيئاً عليه في غرفة الإنعاش، كتبت صحيفة تدّعي "السبق في كل شيء": "انهيار بناية في المدينة القديمة بسكيكدة يخلف... أكثر من عشرين جريحاً."

 





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً