لا ننتقص، ولو بمقدار شعرة من مشاعر أي عربي حيال شعب العراق ونخيله وترابه ورافديه وما بينهما من مدخرات ومقتنيات ووعود بالخير. ولكننا نرجو ان يسمح لنا - أنا وأمثالي - ان نقول كلاما يأتي من خصوصية عراقية فينا، تكاد تضاهي خصوصيتنا الوطنية اللبنانية... ونحن مئات من الأحياء، ذهبوا لعراق وعادوا منه مقتفين آثار الآلاف من الأسلاف، منذ ألف من الأعوام مرت على تأسيس جامعة النجف بعدما أغرق السلاجقة رماد مكتبات بغداد في مياه دجلة، فزادته طميا إلى طمي وخصبا إلى خصب، ولم تمنع الخاسرين ان يؤسسوا للعراق والعرب والمسلمين، نهرا آخر بظهر الكوفة موازيا ورافدا للفرات، ومنحدرا معه حتى شط العرب والبصرة، حيث أعاد المغول الفعلة بشكل أشد قسوة... ولكننا جميعا أيضا نجونا...
لقد تفتح وعينا وتأسست معارفنا في العراق، بين صهره الصيفي وخماسينه، وصقيعه الشتوي، بين نخيله الباسق الكريم وعاقوله وحنظله المر المشوب بحلاوة الفقه والشعر الذي يطل عليك من ديوان الشبيبي والحبوبي وجمال الدين والرصافي والبياتي والجواهري وسعدي يوسف، ويتألق في (أنشودة المطر) و(جناجيل ابنة الجلبي) ورذاذ (بويب) و(شباك/ وفيقة) في (جيكور السياب). ويتسرب الشعر بالغا نهايات احتمالات الجمال في العربية، من حي كندة حيث نشأ الكندي ولعب المتنبي وصلب ميثم التمار وأقام علي، في بيت ابن أخته، لأنه لم يكن، وهو خليفة، يملك إلا سبعين درهما حين قتل في المحراب ومصرا على ألا يبيع نهج البلاغة لأحد، حتى لو اقتضى ذلك ان يصل رأس نجله إلى دار الإمارة اللاحق بالمسجد محمولا على الرمح وحوله السبايا يستعتبن من لا يُرجى.
كانت نجفنا العراقية (عراقنا النجفي)، منجما عربيا للعلم والوطنية، حتى في فترات الهزيمة والتراجع، وفيها تبلورت مقدمات ثورة العشرين، في ثورتها العام 1918 تمردا على الإنجليز ألجأهم إلى تشديد الحصار عليها أشهرا، وأعدم في نهايتها أبطالها، فبادر مراجعها وعلماؤها إلى إعلان الثورة والمقاومة... وأنا وأمثالي ممن ذكرت اجمالا، لنا حق في كلام آخر عن العراق، يضاف إلى حق أي عربي ولا يلغيه، وهذا الحق كان استحقاقنا منذ اندمجنا في الحياة العراقية وتفاصيلها الحميمة، وصار لنا نبض عراقي استقر على نصابه وإيقاعه العربي والإسلامي ولايزال، يعززه بعدنا القسري المؤلم عن العراق، ينبض حنينا وشوقا، ونعوض أنفسنا وأهلنا وأولادنا عن حرماننا وحرمانهم من العراق وتحريمه علينا، مصطلحات نتداولها في بيوتنا وسهراتنا الرمضانية والمطاردات الشعرية والثقافية التي تعلمناها في ليالي رمضان العراقي... وبالاحتفاء بصديق أفلت من الموت العراقي والحصار الداخلي والخارجي، ودلف إلى دمشق الشام أو شواطئ الخليج يتنسم الكرامة والوفاء ورائحة الوطن والذاكرة.
«ليت السفائن لا تقاضي راكبيها عن سفار
أو ليت ان الأرض كالأفق العريض بلا بحار»
وفي ألوان الطعام العراقي الأثير لدينا، تشرق أرواحنا إذ نذوق فيه طعم العراق، ومن مقتضيات هذا الطعام بعض البقول مثل الحلباء والشومر (الشمنت)، المتوافرة بكثرة في لبنان، ولكننا لا نتذوق فيها نكهتها العراقية، فنذهب إلى الشام نتسقط أخبار المقبلين من العراق، من أهل السير الذين ألجأهم النظام إلى تعاطي تجارة ليست من شأنهم لولا موجبات الكرامة، علنا نجد من شومر العراق أو حلبائه أو طرشيه أو رمانه، ما يعيد إلينا بعضا من مكونات روحنا العراقية، وننتظر اشتداد حر الصيف بفارغ الصبر، ونأمل ان يكون أشد على العراق ليعجل في نضج الرطب البرحي أو الخستاوي أو العمراني، ولعل مقدارا منه يأتينا مع المقبلين من الغيب العراقي الأكثر حضورا وشهودا وشهادة في دمنا، ونتناول الرطب الجني أو يتناولنا في حال طقوسية شفافة ومتوترة، حتى الانجذاب والوجد، بين صلاة عامرة بالشوق وصلاة زاخرة بالشكر على بعض من العراق.
نقول، ونحن قد عاينا الجور وعانيناه مع العراقيين،من قبل النظام، قبل ذرائعه الساقطة في حرب الخليج الأولى، ثم الثانية، أي جريمة احتلال الكويت، والواحد من يستطيع ان يعد عن ظهر قلب مثقل بالفقد، أسماء عشرات من أصدقائه العلماء والأدباء والشعراء والشرفاء والأوادم البسطاء، قتلوا لا لشيء، والأكثر منهم لم يعارضوا، وان عارضوا لم يعلنوا، وان أعلنوا لم يرتكبوا، وبعضهم تحفظ على المعارضة، لا لأنه موال للظالم، بل لأنه يميل إلى التأني والتروي والتبصر بالعواقب... كان الأكثر ميالين إلى الهدوء ضمانا لاستمرار كل الأطراف المكونة للمجتمع العراقي في حوارها الداخلي ووجودها الفاعل وحرصا على العراق، وجوده والوجود فيه، على ان كمالات هذا الوجود، العدالة والديمقراطية والحرية والتوازن أمر آخر يتم السعي إلى تحقيقه من دون التباسات أو شبهات، ومع كل ما يقتضي من حكمة وتوازن وعدم تأجيل معجل أو استعجال مؤجل... ولكنهم أيضا قتلوا.. قتل سبعة عشر من أساتذتنا ورفاقنا وزملائنا وأصدقائنا من عائلة عراقية عربية علمية أصلا وفعلا وعراقة، في غرفة واحدة، في لحظة واحدة، أمام عيون واحد من شيوخ الحوزة وأساتذتها الكبار وهو أب لثلاثة منهم وعم أو ابن عم للآخرين... ونذكر البعثيين العرب العراقيين والعرب ونتذكر معهم ان شاؤوا، ان هذا النظام اجتث المؤسسين لحزبهم والأكثر التزاما ووعيا واستقامة وعروبة، ولم يبق إلا البقايا التي ما ان يشرئب رأس واحد منها ولو عفوا ليرى إلى ما بين قدميه من حفر ومعاشر، حتى يطيح به رأس النظام حتى لو كانت تجمعه به رحم قريبة.
كنا، منذ أوائل السبعينات، منسجمين مع تيار عربي واسع، من شيعة العراق خصوصا من الرافضين للنظام، والمشككين أو المرتابين في صحة وجدوى ان يظهر مشروع التغيير في العراق وكأنه شيعي حصرا، أو بواجهة شيعية طاغية أو خطاب شيعي غالب، وكان ولايزال رأيهم ورأينا ان غلبة الصفة الشيعية المعلنة أو الظاهرة، أو الأشد ظهورا على المعارضة ومشروع التغيير، فيها كثير من الاختزال الضار، ومن شأنه ان يحقق الرغبة الأميركية في بقاء العراق كرة في المضمار الأميركي، تندفع بأجساد المهاجمين والمدافعين إلى مرمانا، إلى مرمى الشعب العراقي والعرب والمسلمين، متأكدين منذ صارحنا (علي صالح السعدي) بأنهم أتوا - أي البعثيون - وكان منهم إلى السلطة في قطار أميركي وخرجوا بقطار أميركي، متأكدين بأن النظام العراقي، نشأة واستمرارا، هو من ضمن ألاعيب اللاعب الأميركي، الذي يؤمن له الاستمرار ضربات العراق وخرابه، بالارتكابات العظمى التي يدفعه إليها. هذا اضافة إلى فهمنا المنهجي والواقعي لتركيبة العراق ودوره وحساسياته، كما نفهم ونتفهم، أو نعود إلى الفهم الصحيح بعد اساءته ودفع الأثمان الباهظة، في أوطان العرب كافة، من لبنان إلى أقصى الخليج شرقا وأقصى المحيط غربا، واقتناعنا بأن العراق نشأ نشأة فيها علامات مذهبية لتؤمن اسنجامه مع محيطه العربي، ونحن نريد العراق كما هو ليتطور من الداخل بآلياته وجدالاته وسجالاته وحواراته الداخلية، على قاعدة التعدد والديمقراطية الضامنة للتغيير والتطوير والتعديل الهادئ، بحيث لا يقوى جناح على أساس ما ينتفه من الجناح الآخر.
ولكن العراق نشأ كذلك، وترسخ على هذا المعطى رسميا، حتى صار وكأنه مسألة عضوية في الحكم، وحتى صار تجاهل هذا المعطى أو هذا البعد، وعدم إدخاله في الحساب بدقة، يؤدي إلى تقويض العراق كله، إما بالتجزئة المحتملة والغامضة والملغومة، والتي إن كانت ممنوعة حتى الآن، فإن السبب في منعها تركي، مضمونه أن تجزئة العراق تفضي إلى دولة تركية في شماله، وهذا من شأنه أن ينشط مشروع الدولة الكردية في تركيا التي مازال هناك حرص أميركي على دورها الذي يستلزم وحدتها.
فإما التجزئة إذن، ونحن من دعاة اندماج الجماعات المختلفة في أوطانها وأقوامها، لأن الميل إلى التمايز والانفصال هو تهديد وتبديد لوجودها، وإما إفراغ الطرق من السياسة والعلم والمال والحياة والبشر كما هو جار حتى الآن، وكل ما نرجوه من جانب قوى المعارضة المتصدية والمتربصة، هو أن يكون للأطراف المغبونة، سواء كانت واقعية في تصور وتصوير غبنها أو مبالغة، من أكراد و تركمان وصابئة وأشوريين وكلدانيين وشيعة، مع مساحات معروفة من أهل السنة العرب، سلوك سياسي لاحق، بعد سقوط النظام أو إسقاطه من الداخل، بفعل الداخل، بلحاظ كونه داخلا عراقيا موصولا بدقة ووعي بعمقه العربي والإسلامي. أن يكون لها سلوك سياسي مطالب وملح من دون جزع أو طمع، بالمشاركة، وصولا إلى تهذيب وتشذيب مفهومي الخوف والغبن، الغبن الكردي والشيعي مثلا، والخوف السني مثلا، مع التحفظ الشديد حتى لا يتحول المغبون إلى خائف فمخيف، ولا يتحول الخائف إذا بالغ في خوفه، إلى مغبون مقيد بما يمكن أن ينجلي عنه المشهد العراقي، إذا ما تم التغيير على أساس طرفي فصالي مع الأطراف الأخرى، قوميا أو مذهبيا... أي أن يعود العراقيون بكل جماعاتهم إلى سلوك اللبنانيين قبل الحرب، قبل أن يتحكم فيهم التطرف اليميني واليساري، الذي لوّن الحوار الساخن بين المسلمين والمسيحيين حول المشاركة، يلوّن الدم والقطيعة والجريمة، إلى أن عادوا بعد الطائف إلى حوارهم الذي مازال يُخشى عليه أن يسخن حتى اللذع إذا ما استمرت المبالغات الإسلامية في استشعار الغلبة والمبالغات المسيحية في استشعار الانغلاب، في حصاره -أي الحوار- وتلغيمه.
إذن فالتغيير في العراق لا يمكن أن يكون فيه دور أية جماعة ثانويا، بحجة أنهم كانوا أهل النظام الجائر، ولا يجوز، عن سوء تقدير وحسن نية أوسوء تقدير رونية، أن يدفع السنة مثلا إلى التنصل من دورهم التغييري خوفا من المآل وعليه، وهذا أمر محتمل، والمحتمل الأقوى أن يكون التغيير مدخلا إلى حرب أهلية عراقية، واسعة ومتنقلة وشاملة ومركبة، تبدأ كما بدأت في لبنان، طائفية ملتبسة باليمين واليسار، ثم تدخل أثناءها الطوائف والمذاهب والأقوام والمناطق والأحياء والعشائر والبطون والأسر في احتراب داخلي دائري، يطيل أمد الحرب ويقضي على ما تبقى من اجتماع وعمران وحجر وبشر ونخل ونفط ومياه... ولا ضمان إلا بمشروع وطني.. التفصيل فيه ولو تصورا ليس من شأن هذه العجالة.
ونذكر بأن الدولة العثمانية كانت جائرة على الجميع، في المركز التركي وفي الأطراف، بنسب متفاوتة أحيانا ومتساوية أكثر الأحيان، وكان على الجميع أن يسقطوها بأيديهم، وهنا ارتكبت المعارضة العربية هفوتها، باستثناء ثورة العشرين في العراق، عندما اعتمدت على الغرب في اجراء التغيير الذي أجراه لمصلحته... ولا سبيل إلى الوقاية من خطأ قاتل في العراق إلا بإزالة النظام الإختزالي بنظام تعددي يعيد إلى العراق وحدته على نور وحداثة وضمانات بقاء ونهوض هي من شأن العراقيين أولا، وهي ثانيا من شأن العرب والمسلمين المحيطين بالعراق طوقا وعمقا وإلا تشظّى العراق واختنق.. فمن يوقف الزلزال على حدود العراق بعدئذٍ؟
إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"العدد 81 - الإثنين 25 نوفمبر 2002م الموافق 20 رمضان 1423هـ