صدر القرار 1441 من مجلس الامن باجماع لم يسبق له مثيل. حشر العراق في الزاوية، ولم يعد له من مفرّ. سارعت الدول العربية عبر وزراء خارجيتها إلى القبول به، وطلبت من العراق الانصياع. خسر العراق حملته الدبلوماسية - الاقتصادية التي سعى من خلالها اعتمادا على مبدأ «فرق تسد».
فالرئيس صدام حسين يدرك تماما ان الغرب والشرق عموما ليسا مغرومين بالرئيس بوش واستراتيجيته الشمولية التي يعبر عنها بالتقسيط والجملة، سواء عبر الخطابات اليومية أو عبر الوثائق الرسمية، اهمها «استراتيجية الأمن القومي «التي صدرت حديثا. وهو يعي حجم الفوارق بين اللاعبين الكبار واميركا. ويعرف انهم منزعجين منها حتى ولو كان تعبيرهم خجولا في بعض الاحيان. وهو يعي انه في المستقبل القريب سوف تشكل الاحلاف ضد الهيمنة الاميركية. لكن، ولسوء حظه سوف لن يكون مستفيدا منها لان عمر نظامه يبدو قصيرا حتى الآن. اما التحالفات وكي تظهر ، يلزمها على الاقل عقدا من الزمن. وهو يعي ايضا ان العالم يعاني من مشكلات اقتصادية خطيرة، خصوصا بعد تراجع وتباطؤ النمو في قطاع التكنولوجيا والاتصالات الذي تعتمد عليه الدول الكبرى إلى حد بعيد. لذلك هو يعرض على روسيا اتفاقات اقتصادية. ويستبدل الدولار الاميركي باليورو الاوروبي في تعامله مع الاممم المتحدة فيما خص مشروع النفط مقابل الغذاء. ويسعى إلى إغراء فرنسا وشركاتها النفطية بعقد اتفاقات لمزيد من التنقيب.
شكل القرار للرئيس بوش واميركا نصرا، كذلك رسم القرار، الحدود القصوى للعظمة الاميركية. فاميركا من جهة حققت ما تريده عبر استصدار القرار 1441. لكنها اصدرته عبر مجلس الامن وبموافقة الدول الدائمة العضوية ولم تنفرد بسياستها. ففي مجلس الامن تتعادل القوى. لكل دولة دائمة العضوية صوتا كذلك لها حق «الفيتو». اما خارج هذا الصرح، تبدو الهيمنة الاميركية ظاهرة للعيان، مسيطرة من دون منازع. لكنه لا يجب ان نغفل نتائج الانتخابات الاميركية الاخيرة، وما لها من نتائج ايجابية على حركة الرئيس بوش بعد ان سيطر حزبه على الكونغرس. لكن المؤشر الخطير يكمن، في ان الاميركيين وللمرة الاولى في تاريخهم الانتخابي اعتبروا ان الأمن يتقدم على الاقتصاد.
اتى القرار قاسيا على العراق وكأنه البديل المنطقي لما اقترحه كولن باول فيما خص العقوبات الذكية. وقسوة القرار اتت في مدة تطبيقه القصيرة نسبيا، التي لم تترك للعراق فترة التقاط الانفاس. كذلك الامر، تناول العراق امر العلماء وامكان تسفيرهم إلى الخارج مع عائلاتهم. ويبدو الهدف من هذا الامر هو: استنطاق العلماء عن برامج اسلحة الدمار الشامل ومقارنتها مع نتيجة التفتيش العملانية على الارض. كما قد يبدو الهدف بعدم السماح لهؤلاء العلماء بالعودة إلى العراق لحرمان الرئيس صدام حسين من البعد المتمثل بالمعرفة التقنية لبرامجه في مجالات الابحاث والتطوير والانتاج. لكن المفارقة الكبرى هي في ان تقدير خرق العراق لهذا القرار هو امر متروك لشخص رئيس فريق التفتيش.
هانز بليكس هو الذي يقدر وهو الذي يفيد مجلس الأمن وهو الذي يشرح. وقراره هو الذي قد يؤدي إلى إعلان الحرب أو عدمه.
بعد إصدار القرار راح العالم يحلل ويفسر الغموض الذي ظهر في القرار. فعلى سبيل المثال، كيف ومتى يعتبر العراق انتهك مضمون القرار؟ وما هو تفسير فقرة «الخرق المادي» التي وردت فيه؟
فهل خرق العراق لمنطقتي الحظر الجوي يعتبر خرقا ماديا؟ وصرح رئيس فريق المفتشين هانز بليكس ان عليه إبلاغ مجلس الأمن بما يحدث معه على الارض، وما على المجلس إلا ان يقرر ما اذا كان العراق خرق مضمون القرار 1441.
فحسب القرار، فسر الخرق المادي، بان يقدم العراق معلومات وإفادات خاطئة، أو يرفض التعاون بشكل مقصود مع فريق التفتيش. والسؤال يبقى في تفسير وتحليل افادات بليكس لمجلس الأمن. فماذا لو اعتبر المجلس وبناء لافادة ما ان العراق لم يخرق ماديا مضمون القرار، لكن اميركا اعتبرته خرقا؟ فماذا سيكون عليه الوضع؟ وكيف ستتصرف اميركا؟ هل ستذهب منفردة، ام تنتظر مزيدا من الحوادث كي يقتنع المجلس؟
صرح امين عام الامم المتحدة كوفي عنان انه يجب على اميركا عدم استعجال الذهاب إلى الحرب. كما ان اعتبار العراق منتهكا لمضمون القرار يجب ان يكون مستندا إلى خرق فاضح وليس لامر بسيط وعادي. لكن الاكيد انه في كل هذه العملية، يبدو الرئيس صدام هو المستفيد الاكبر. لان عملية التفتيش قد تطول، وتطول لتتجاوز المدة المحددة بالقرار. وقد يعمد الرئيس صدام مسبقا إلى نشر ما يملك من اسلحة دمار شامل على مساحات واسعة من العراق. أو قد يعمد إلى خداع الاستخبارات الاميركية عبر زرع مخازن وهمية في اماكن متباعدة عن بعضها بعضا. بهدف تضليل المفتشين لتجاوز المدة المحددة في القرار. وكل تجاوز للمهمة من دون خرق مادي عراقي مهم، قد يجعل اميركا في موقع لاتحسد عليه. فهي اعطت الستين يوما كحد اقصى. وهي في الوقت نفسه تبني وتجمع قواتها العسكرية بهدف خوض الحرب في ظروف مناخية مناسبة. لذلك هي ترغب في ان يكون الخرق المادي قبيل انتهاء مدة الستين يوما. والعكس قد يعني بقاء مئات الآلاف من الجنود، والترسانات الضخمة من الاسلحة في منطقة الخليج منتظرة تحت الشمس الحارقة لا تفعل شيئا. وهذا امر غير مستحب من القادة العسكريين، عدا عن كلفته المرتفعة التي تتحمل اميركا نفقاتها لوحدها هذه المرة.
والسؤال هل اخطأت اميركا عندما ذهبت إلى مجلس الامن لاستصدار هذا القرار؟ فالقرار قد يشكل فعلا مدخلا لعملية استنزاف واستيعاب عراقية ودولية للجهود الاميركية. وفي الوقت نفسه يشكل محاولة لاحتواء الانفلاش الاميركي بعد ضربة 11 سبتمبر/ ايلول؟ ام ان اميركا وبعد سنة على مرور ذكرى 11 سبتمبر، وعت ان الاستمرار في التفرد بمصير العالم لم يعد ممكنا ومفيدا، لذلك لجأت إلى اهم مرجعية دولية امنية لايجاد مخرج لائق لها؟
والسؤال يبقى لو طبق القرار1441 من دون اي خرق مادي من العراق. أو يرفع بليكس تقريره كاملا يبرئ العراق من كل التهم الموجهة له. سيكون عليه الموقف الاميركي وهل ستكون هناك ذرائع اخرى مبتكرة للذهاب إلى الحرب؟وهل سترفع العقوبات عن بغداد؟ وهل ستقبل الإدارة الاميركية ببقاء الرئيس صدام على رأس السلطة في بغداد، وهي التي رفعت سقف خطابها إلى درجة لا يمكن التراجع عنها؟ هذه امور مطروحة لكن الاجوبة عنها تستلزم معرفة عميقة في التنجيم، وهذا امر ليس سهلا لكن، فلنفترض ان العراق طبق القرار بحذافيره، فمن هم المستفيدون ومن هم المتضررون؟
المستفيدون
1- العرق: إذا تمكن العراق من تجنب الحرب عليه، فهو المستفيد الاكبر.
سيوفر الدمار والارواح. كما سيوفر الاموال اللازمة لاعادة البناء بعد الحرب مباشرة. سترفع عنه العقوبات المفروضة من خلال استراتيجية الاحتواء المزدوج. وسيعيده هذا الوضع للعب دوره النفطي المهم خصوصا وإنه يملك ثاني احتياط نفطي في العالم حتى الآن (140 مليار برميل) بعد السعودية. وقد يحافظ العراق على وحدة اراضيه، يعود إلى لعب دوره السياسي الاقليمي المهم خصوصا وانه يشكل العمق الاستراتيجي العربي بامتياز لدول المواجهة. لكنه في المقابل سيفقد قدرته العسكرية، وسيكون تحت الرقابتين الاميركية والاسرائيلية. يراقب عن كثب في مجال إعادة التسليح. والسؤال هل يبقى صدام على رأس السلطة؟ حسب المنطق السياسي، وحسب الوضع الدولي الذي تسيطر عليه اميركا منفردة، لا يعتقد المحللون ان اميركا قد تقبل بأقل من تغيير النظام. لكن عملية التغيير وتوقيتها قد تحددها اميركا لاحقا.
2- تركيا: لا تريد حربا على حدودها. ولا تريد دولة مستقلة لاكرادها، أو ان يكون أكراد الشمال العراقي كما هي قوات التحالف الشمالي لأميركا في افغانستان. وتركيا مستفيدة من النفط العراقي حاليا، ولا تعرف ما ينتظرها في مرحلة ما بعد التغيير في العراق وتأمين السيطرة الاميركية التامة. وهي تعي ان اهميتها الجيو سياسية تراجعت عند «العم سام» بعد سقوط الدب الروسي. وهي تعرف تماما ان مستقبلها في هذه المرحلة يكون بالاتجاه غربا نحو اوروبا. ويعي ايضا مسئولوها خصوصا العسكر ان الخطر الاسلامي داهم، وهو ظهر جليا بعد سيطرة الاسلاميين على الانتخابات الاخيرة. لذلك هي لا تريد ان تشارك اميركا عسكريا بضرب المزيد من الدول الاسلامية. كما لا تريد ان تكون ملاذا للاجئين العراقيين الهاربين من الحرب.
3- مجلس الامن: اذا ما نفذ القرار 1441 من دون حرب، فإن هذا الامر يعتبر انجازا للامم المتحدة ولمجلس الامن. فالمجلس قد يسترد هيبته بعد ان جعله الرئيس بوش يبدو من خلال خطابه الذي القاه في 21 سبتمبر ومن على منصة الامم المتحدة، وكأنه اصبح (اي الامم المتحدة والمجلس) من بقايا الحرب الباردة ولابد من تغييره. لكن مجلس الامن في حل هذه الازمة، قد يضع اعباء جديدة عليه كأن يحاول فرض تطبيق كل قراراته، خصوصا المتعلقة بالصراع العربي - الاسرائيلي.
4- القوى الكبرى الاوروبية والآسيوية: ستشعر هذه الدول ان لها وزنها على الساحة العالمية. وانها لا تزال فعالة في مجلس الامن وكل ما يتعلق بالمحافظة على الامن والسلم العالميين. وهي ستحصد ايضا حصصها الاقتصادية مباشرة من العراق وليس من خلال الموافقة الاميركية. وستشعر هذه الدول انها لاتزال فاعلة في اهم مركز ومصدر للطاقة في العالم، وإن امنها المتعلق بالطاقة ليس تحت رحمة احد. وهي ايضا لن تكون وسيلة في يد اميركا لترتيب وضع العراق بعد الحرب.
المتضررون
1- تبدو السعودية في وضع حرج إزاء هذا الموضوع. فهي لا تريد الحرب نظرا لانعكاساتها الخطيرة عليها، لان اميركا ترتد لمحاسبتها بعد انتهاء الحرب. كما انها لا تميل إلى سيطرة اميركا على النفط العراقي المنافس لها في المستقبل. وهي لا تريد اللاجئين العراقيين على حدودها. اراحها القرار 1441 لفترة معينة لانه اجل الحرب. لكن انصياع العراق الكامل للقرار 1441 قد يزعجها ايضا. والتجربة معه غير مشجعة ابدا، وهو سيستعيد مكانته الاقليمية بين تركيا وايران، ليتراجع دورها لدى اميركا. كما ان العراق المعافى قد ينافسها نفطيا في الانتاج والتسعير.
يندرج هذا الامر على الكويت التي تلقت صفعة الحرب ولم تحل مشاكله مع العراق حتى الآن.
2- سورية. سورية الاكثر احراجا. فهي صوتت على القرار 1441، وتعتقد انها ابعدت شبح الحرب. وهي نصحت العراق القبول به. لكنها لا تستطيع الممانعة لانها متروكة ووحيدة. فإن هي عاندت الحرب، دفعت ثمنا عاليا خصوصا في صراعها مع اسرائيل. وان هي سارت في الحرب وهيمنت اميركا على العراق، فهي مقتنعة ايضا ان اميركا ومن ورائها اسرائيل سترتد عليها. وإن طبق القرار 1441 من دون حرب، فهي ايضا ستجد عراقا قويا قد يتخلى عنها اقتصاديا.
من هنا نلاحظ الحنكة السورية في التعامل مع هذا الوضع لحصد اكبر قدر ممكن من المكاسب من دون المس بجوهر ثوابتها. لكن الامر اصبح صعبا جدا لان المتناقضات اصبحت كثيرة.
اما الاردن فهو قد يخسر في الحالتين، الحرب والسلم. الحرب ستنعكس عليه اقتصاديا واجتماعيا. وفي السلم فهو قد يتراجع في سلم اولويات عراق المستقبل.
3- اسرائيل تريد عراقا مدمرا وغير قادر على النهوض لفترة طويلة من الزمن. كما تريد ان تخسر سورية والعرب هذا العمق الاستراتيجي الذي شارك تقريبا في كل الحروب ضدها. وهي تريد تدمير العراق ليكون امثولة لغيره من الانظمة العربية.
في الختام، يبدو ان اميركا تدير المسرحية الكبرى وتتحكم بخيوط اللاعبين. فإن هي احسنت إدارة اللعبة وجعلت الكل يعتقد انه حقق اهدافه، فسينصفها التاريخ. فتنفيذ القرار، أو الذهاب إلى الحرب، لا يؤثرا إطلاقا على الارباح الاميركية كونها الرابح الاساسي، الذي يسيطر على جعبة المال العالمية. الا اذا كانت مقررة على الحرب سلفا، وكل ما نشهده الآن هو فصل صغير من المسرحية الكبرى. ففي كل الحالات، هي الرابحة لكن الاكيد ان الحرب هي ميدان المجهول، فكم من امبراطورية عرفها التاريخ سقطت بالحرب. وكم من امبراطور مسخهم التاريخ بسبب غطرستهم. فحذار ايها الرئيس
العدد 81 - الإثنين 25 نوفمبر 2002م الموافق 20 رمضان 1423هـ