في العمل السياسي هناك أكثر من قراءة للظاهرة السياسية، ولهذا تتعدد القراءات والتفسيرات التي يختلف الناس عليها في الظاهرة الواحدة، وتصبح مجالا للمنازعات، إلا أن تفسير الظاهرة والاختلاف عليها لا يعني عدم الاتفاق على آثار الظاهرة أو فداحتها، فعدم الاتفاق على الآثار والنتائج يقود إلى الاجتهادات المتعاكسة في وضع الحلول، وبالتالي يؤدي إلى تفاقم الظاهرة، خصوصا إذا تحولت من سلوك أو قول إلى الفعل المسلح الذي يودي بحياة الناس.
في التفسير الذي أعطي حتى الآن لظاهرة الاعتداء على الجنود الأميركان في الكويت بأنه شخصي، أو بسبب خلل في عقل من قام به، أي أنه شخص «غير مُكلف لا يجوز عقابه». وقد يقدم هذا التفسير راحة وقتية لمن يقول به، ويبرر إرجاء الحسم السياسي فيه، ولكنه لا يساعد على فهم المشكلة التي تواجه المجتمع، ولا يقدم تفسيرا مقنعا للظاهرة التي تعدت الآن الفردية لتصبح شاملة وذات مردود سلبي على المجتمع ككل لا خلاف عليه، والذي يُعرض أمنه للاهتزاز، وعلاقته الدولية للتذبذب ومستقبله للخطر.
فالمجتمعات لا تخول ممن لديهم خلل عقلي، ولكن أن يستهدف أولئك هدفا بعينه بعد متابعة وترصد، فإن العقل الراجح ينفي أن يكون ذلك الحادث هو نتاج خلل عقلي أو اضطراب نفسي، بقدر ما هو فعل مقصود.
ومن المؤكد أن مثل هذه الظاهرة تتعدى فرديتها ومن قام بها كشخص، بعد حادث مشابه في جزيرة فيلكا، وأحداث كثيرة فيما بينها، لتصيب هدفا أكبر هو ترويع القوات الموجودة على أرض الكويت وحصرها في أماكن بعينها، وإشاعة شعور أن الأرض التي تقف عليها وتتحرك منها هي أرض معادية، يجب الحذر منها والنظر إلى كل شاردة وواردة فيها على أنها شر مستطير، وهي عملية نفسية لها مردودها السلبي الكبير يتعدى حجمها وينسجم مع الأهداف المعروفة للعمليات الإرهابية. فكيف يتسنى لقيادة تحيط بها هذه الأجواء أن تقوم بواجباتها التي تعاقدت الدولة معها برضا الجميع، على أن تقوم بها، وهي تشعر أنها في بيئة معادية لا تعرف من أين يأتيها الضرر.
مثل هذه الظاهرة لا شك في أنها تعطي انطباعا قويا في الإعلام العالمي أن هناك «مقاومة» من نوع ما للوجود الأميركي على الأرض، وهي مقاومة لم تلحظها هذه القوات في أماكن كثيرة من العالم، وحتى العالم العربي التي لها وجود فيه في أماكن كثيرة. فالقوات الأميركية موجودة على كثير من الأرض العربية، ولا تعاني من مشكلات أمنية، كالتي تتطور على أرضنا، بل هي تقوم بمناورات مشتركة مع جيوش عربية على امتداد الساحة من المحيط إلى الخليج، وهذه المناورات علنية تنشر أخبارها في وسائل الإعلام، ولم يتقدم مخبول واحد لتعطيل سيرها.
ليس الاختلاف هنا على أن الحوادث من هذا النوع لا تحدث أو أن احتمالها ضعيف، ولكن الخلاف هو في تفسير الظاهرة، واعتبار كل حدث معزولا عن غيره غير مرتبط به، غير أن الاعتراف بأنها سلسلة متتابعة ومترابطة من الحوادث، وليست عفو الخاطر أو مزاجية، يقربنا إلى الفهم وبالتالي التحرك المنطقي لمواجهتها، وهذا لم تصل إليه القناعة بعد لأسباب كثيرة.
في التحليل لفهم الظاهرة هناك من دون ريب جو من الحماس المضاد للوجود الأميركي، غير مبرر وغير المقنع للكثيرين، ولكنه موجود وقائم ومن الخطأ نكرانه، فالقوى المنظمة المعادية للتعاون الأميركي تغذى كل يوم بطريقة أو بأخرى من أكثر من مصدر، ويغذى هذا الشعور العدائي تارة باسم قضية قومية هي فلسطين، وتارة باسم قضية عقيدية هي حرب الكفار، أو أخيرا بما يتوقع أن يحدث في العراق، وهو أمر منتشر في مؤسسات كثيرة تعليمية وعلمية وسياسية وإعلامية، بل هو يبنى بسهولة على قناعة راسخة وقديمة ومتجذرة استجابت لها شريحة من الشباب ولفترة طويلة من الزمن غض الطرف عنها، وأخذت هذه المدرسة من التفكير تقدم ما تؤمن به على أنه «مقاومة»!
في قلب هذا التحليل رؤية البعض أن الحملة على العراق، ان حدثت، فهي مقدمة لتقليص أدوارهم وسحب البساط من تحت أرجلهم، بعد أن أصبحوا بفضل هذه الدعاوى شيوخا معممين وربابنة إفتاء مسيطرين على منصات توجيه للرأي العام، وأصحاب مصالح في نهاية المطاف، يجب أن تستمر بأي ثمن، وأن تخدم بصرف النظر عن الأثمان التي يدفعها الوطن، ومن هنا لم يعد مسلسل الاعتداء على الأصدقاء الآمنين قضية فرد فقد توازنه النفسي، بل قضية توجيه وتثقيف، ومخطط تخويف وإرهاب ومقصد سياسي ومصلحي، من أجل شل الفاعلية التي يمكن أن تصبح عليها قوات محاربة جاءت من أقصى الدنيا لتنفذ معاهدات دولية أقرها المجتمع ومؤسساته الدستورية، وفي جو إقليمي بالغ الدقة وسريع الحركة والتغير.
إذا كان ذلك واضحا وجليا فإن التهوين من الحوادث، التي يرى مراقبون كثيرون أنها ستتصاعد، إن لم يعترف بأنها ظاهرة وجب حسم الموقف تجاهها، ومن دون التقليل من آثارها الحالية والمقبلة أيضا، هذا التهوين يتم لدى البعض بمقارنتها بما حدث لحركات سياسية سابقة هو الخطأ بعينه، فالحركة القومية التي يقارن بها البعض حوادث اليوم، لم يكن لها مخالب دولية، ولم يكن لها أيضا تمويل دولي بالغ الثراء، فالراحة التي تقدمها المقارنة الشكلية هي راحة وقتية لا أكثر، لأن الظاهرة الجديدة والمنتشرة لا يسندها لدى المؤمنين بها موقف سياسي فحسب، بل موقف عقيدي أيضا، ومن وجهة نظرهم.
أولى خطوات العلاج هي مغادرة الثنائية التي جُبل عليها الخطاب السياسي، والقول من دون مواربة إن الحلفاء أصدقاء، وأما الموقف الرمادي بأنهم أصدقاء وغير أصدقاء في الوقت نفسه فهي ثنائية يتسلل منها الكثير من اللغط، التي تفتح الفرص واسعة لتسلل الأفكار المعادية، وبالتالي الأفعال الإرهابية ضد الأصدقاء.
خضع الخطاب العربي وتفرعاته السياسية إلى هذا النوع من الثنائية لفترة طويلة، ما جعل الأمر يبدو مبررا للبعض بالعبث بالأمن، وكأنه عمل «وطني» يثاب عليه من يقوم به.
لقد أوقع الإرهاب العرب في السنوات الأخيرة في مأزق، فهو إرهاب أعطى الأنظمة الدكتاتورية عصا طويلة لزيادة القمع في الداخل من أجل محاربة الإرهاب، وأعطى القوى في الخارج التبرير والذرائع للتدخل الخارجي الفظ، وهو في الداخل اليوم يقوم بالدور نفسه، ويصب في الاتجاه نفسه، ومن دون مناقشة أسبابه الحقيقية فإننا ندفن رؤوسنا في التراب من جديد.
يقول الإعلام إن للإرهاب شكلا آخر في مجتمعاتنا اليوم. وهو شكل «جمع التبرعات» من البسطاء، في كثير منها استدرار العاطفة الدينية، ومن دون أية قنوات قانونية أو ثبوتية أو حتى تقديم إيصال مكتوب. فجمع المال يأتي في الدرجة الأولى تحت مبررين، الأول أن هذه التجمعات غنية، وبالتالي عليها أن تساهم في رفع بعض المعاناة عن الآخرين، والثاني أن التبرع المالي الأهلي هو أكثر جدارة من الرسمي. وكلا الافتراضين فيهما من الخطأ الكثير. فالفقر في مجتمعاتنا موجود، وهو في المناسبة نسبي. والاهتمام برفع قدرة المواطنين على مواجهة العوز ليس عملا منطقيا فقط بل أمنيا كذلك، وقد آن الأوان لتقنين الجباية التي يتم صرفها بشكل عشوائي غير منظم، على أن تكون أولويتها أهداف داخلية لرفع الضيم ومنع الوقوع تحت ضغط الحاجة للمواطنين المعوزين، وهم أقرب إلى المعروف. فزمن البراءة انقضى مع أولى طلقات الإرهاب الممول جزئيا من تبرعات الناس البسطاء، الذين أرادوا إراحة ضمائرهم في مشاركة إنسانية عن طريق تبرعهم للخير، أو ما ظنوا أنه خير، كما أن تقنين التبرعات ووضع أولويات لها من خلال مؤسسات يفرض المجتمع عليها نظاما صارما في المتابعة، هو أمر أصبحت ضرورته واضحة كالشمس.
كما أن وضوح الخطاب السياسي بات ضروريا كما بات بث التفكير العقلاني في مؤسستنا التعليمية والتثقيفية من الملحات ومن الأولويات غير المرجئة، فلا يستوي أن يقوم المجتمع بتعاقد دولي ثم يتيح لبعض أفراده، تحت ذرائع شتى وتبريرات واهية، أن يفزعوا ويروعوا من آمن لهم
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 81 - الإثنين 25 نوفمبر 2002م الموافق 20 رمضان 1423هـ