في 28 مارس/ آذار 2017 نفّذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضربة قاسية في حربه على البيئة، بتوقيعه الأمر التنفيذي المسمى «استقلال الطاقة»، الذي تراجعت الولايات المتحدة بموجبه عن القواعد التي وضعت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما لمواجهة تغير المناخ. وشمل هذا التراجع «خطة الطاقة النظيفة»، والقيود على انبعاثات غاز الميثان، وتجميد إيجار الأراضي الاتحادية للشركات العاملة في استخراج الفحم الحجري.
وكان ترامب هدد خلال حملته الانتخابية في 2016 بإلغاء وكالة حماية البيئة الأميركية، التي لم يكن يعرف اسمها الرسمي، وقال في مناظرة مرشحي الحزب الجمهوري في 3 آذار (مارس): «وزارة حماية البيئة، سوف نتخلص منها بكل شكل متاح، لن نترك خلفنا سوى الفتات بعد أن نقتطع جزءاً كبيراً منها». وفي وقت لاحق من حملته، خفف ترامب من حدة تهديده بعدما تبيّن أن إلغاء الوكالة غير ممكن من الناحية القانونية.
يستطيع ترامب خلال أربع سنوات أن يفعل الكثير لتحجيم وكالة حماية البيئة من دون الحاجة لإلغائها، ومن ذلك مثلاً تغيير تشريعاتها وتقليص مواردها البشرية والمادية. فهو قام بتكليف سكوت برويت، المشكك بتغير المناخ، برئاسة الوكالة، على الرغم من خصوماته القضائية ضد الوكالة سابقاً. وفي مشروع موازنة 2018، اقترح ترامب تقليص ميزانية الوكالة بنسبة 31 في المئة، الأمر الذي سيؤدي إلى فقدان الوكالة 19 في المئة من قوتها العاملة والإضرار ببرامجها الرقابية والبحثية ذات الصلة بتغير المناخ وحماية نوعية الهواء والماء.
في أقل من مئة يوم على دخوله البيت الأبيض، قطع ترامب شوطاً كبيراً في تنفيذ تعهداته المعادية للبيئة، التي تدور حول خطة الطاقة النظيفة واتفاقية باريس المناخية والنزاهة العلمية والتراجع عن التشريعات وأنابيب النفط ومناجم الفحم والتنقيب عن النفط. إنه يحاول الغاء انجازات أوباما البيئية، والعودة ثمانية أعوام إلى الوراء، لاستئناف سياسات جورج بوش المثيرة للجدل، التي وضعها غلاف مجلة «البيئة والتنمية» لشهر مايو/أيار 2002 تحت عنوان «الارهاب البيئي».
تعتبر «خطة الطاقة النظيفة» حجر الزاوية في جهود الرئيس السابق باراك أوباما لمواجهة تغير المناخ، وهي حزمة من التشريعات التي من شأنها الإقلال من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، عن طريق دفع محطات توليد الطاقة للابتعاد عن الفحم، والتحول نحو مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
ولايات الساحل الغربي وعدد من المدن الرئيسية أعلنت رفضها لهذا الإجراء، وقررت أنه، بغض النظر عن الإجراءات التي يتخذها ترامب، فإنها ستتابع تنفيذ خطة الطاقة النظيفة، لأثرها في تحقيق صحة وبيئة واقتصاد أفضل. وتعهدت منظمات المجتمع المدني الأميركية بمعارضة الأمر التنفيذي للرئيس ترامب من خلال الدعاوى القضائية.
اتفاقية باريس المناخية
تم التوصل إلى اتفاقية باريس المناخية في ديسمبر/كانون الأول 2015، ودخلت حيز التنفيذ في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 بعد مصادقة عدد كافٍ من الدول، من بينها الولايات المتحدة. وكان ترامب تعهّد خلال حملته الانتخابية بإلغاء انضمام الولايات المتحدة إلى الاتفاقية، الأمر الذي لا يمكنه القيام به إلا بعد ثلاث سنوات، حسب نص الاتفاقية.
وقد توقع البعض لجوء ترامب إلى سحب الولايات المتحدة من الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة الخاصة بالمناخ، التي تُعتبر اتفاقية باريس متفرعة عنها. لكن هذا الإجراء سيحرم الولايات المتحدة من مقعد على طاولة المفاوضات ويترك دور القيادة في مسألة أخلاقية كالمناخ لصالح الصين، الأمر الذي يتعارض مع المصالح الديبلوماسية والاقتصادية الأميركية.
وفي مواجهة مواقف ترامب، أكد الاتحاد الأوروبي والهند والصين الالتزام بموجبات اتفاقية باريس المناخية أياً تكن خيارات الولايات المتحدة.
أنابيب النفط
شكّل مد أنابيب النفط محور تجاذب سياسي خلال عهد أوباما. فشركات النفط تسعى جاهدة لتنفيذ أنبوب «كي ستون» وأنبوب «داكوتا» وسط معارضة الناشطين البيئيين والسكان الأصليين، ما جعل من وقف هذه المشاريع مسألة ذات رمزية هامة في جهود أوباما لمكافحة التغير المناخي.
ترامب وعد خلال حملته الانتخابية أن يستكمل مد أنابيب النفط، وهو بادر في يومه الرابع في السلطة بتوقيع أوامر تنفيذية تتيح المضي بهذه المشاريع. وفي 24 مارس2017 أعلنت شركة ترانس كندا أنها تلقت تصريحاً رئاسيا يتيح لها متابعة العمل على أنبوب «كي ستون». وعلى الفور قامت مجموعات بيئية بالطعن في هذا التصريح أمام القضاء، لأن الدراسات البيئية القديمة للمشروع اعتبرت أن سعر برميل النفط لن يهبط دون المئة دولار طيلة عمر المشروع، في حين أن سعر البرميل حالياً هو أقل من ذلك بكثير.
يبقى التصريح الرئاسي بمثابة موافقة على السير في إجراءات المشروع وليس تنفيذه، لأن هذا يتطلب موافقة المشرعين في ولاية نبراسكا، التي يعارض سكانها المشروع، وكذلك معالجة الرفض من طرف السكان الأصليين وملاك الأراضي، وغير ذلك من تعقيدات قانونية وقضائية تستلزم وقتاً طويلاً.
مناجم الفحم
خلال حملته الانتخابية في الولايات المنتجة للفحم مثل وايومنغ وويست فيرجينيا وكنتاكي، تعهد ترامب بإحياء صناعة الفحم المتهالكة في الولايات المتحدة. هذا التعهد يبدو مستحيل التطبيق، إذ ليس بمقدور الفحم الصمود أمام الأسعار المتدنية للغاز ومصادر الطاقة النظيفة. وبالتالي فإن قيام ترامب بإلغاء التجميد الذي وضعه أوباما على إيجار الأراضي الاتحادية لشركات الفحم من خلال الأمر التنفيذي «استقلال الطاقة» لن يكون أكثر من خطوة سياسية.
وفي جميع الأحوال، يبدو أن قطاع الفحم لن يحظى بالكثير من المكاسب، خاصةً بوجود مسؤولين في الإدارة الأميركية يؤيدون صناعة الغاز المنافسة، مثل وزير الخارجية القادم من شركة إكسون موبيل ذات الاستثمارات الواسعة في الغاز الصخري ومنشآت تحويل الغاز إلى بلاستيك. ولذلك توصف العلاقة بين صناعة الفحم والإدارة الأميركية الحالية بأنها أشبه بعلاقة الثقة بين الدجاج والثعالب. فرجال النفط والغاز في الإدارة الأميركية يضعون قطاع الفحم في الواجهة لتلقي سهام النقد، كما حصل في مشهد توقيع الأمر التنفيذي «استقلال الطاقة»، بوجود عمال الفحم خلف الرئيس، في حين أن الرابح الأكبر هو قطاع النفط والغاز.
رجال الرئيس
قادة اللجان في مجلس الشيوخ الأميركي يؤيدون بشكل علني قطاع الطاقة على حساب البيئة. فرئيسة لجنة الطاقة، ليزا موركووسكي، هي من ولاية ألاسكا المعروفة بتأييدها القوي للنفط، ورئيس لجنة البيئة، جون باراسو، هو من ولاية وايومنغ أكبر منتج للفحم إلى جانب كونه من المشككين بالتغير المناخي. ومع ذلك، تبقى القضايا البيئية في وضع غير محسوم ضمن مجلس الشيوخ، لأن الكفة تميل بفارق بسيط لصالح الجمهوريين. ولعل فشل إدارة ترامب في إزاحة قانون «أوباما كير» حول الرعاية الصحية لن تكون حالة الفشل الأخيرة، بالرغم من وضع كل ثقلها لتمرير قانون بديل.
أما في السلطة التنفيذية، فنجد أن مراكز القوة تسيطر عليها شخصيات على صلة وثيقة بقطاع النفط والغاز. فنائب الرئيس مايك بينس، مقرَّب من «مجموعة كوش» العاملة في الصناعات الكيماوية والنفط والغاز. كما أن رئيس وكالة حماية البيئة سكوت برويت، المدعي العام السابق لولاية أوكلاهوما، تلقى تبرعات من أصحاب مصالح في الطاقة الأحفورية. وكان وزير الخارجية ريكس تيليرسون المدير التنفيذي ورئيس شركة إكسون موبيل، وهي أضخم شركة خاصة للنفط والغاز في العالم، ومن كبار المشككين بجدوى الطاقة المتجددة. أما وزير الطاقة ريك بيري، فكان حاكماً لولاية تكساس النفطية وعضو مجلس إدارة في الشركة التي تقف خلف استكمال تنفيذ أنبوب نقل نفط داكوتا.
تغريدات ترامب المناخية
لعرض وجهة نظر ترامب حول التغير المناخي، قمنا بتحليل تغريداته عبر حسابه الرسمي على تويتر @realDonaldTrump فبلغت بمجملها أكثر من 34,600 تغريدة كانت أولاها في 4 مايو/أيار 2009. من بين هذه التغريدات، توجد 119 تغريدة تطرقت بشكل مباشر للتغير المناخي، وهي جميعها تغريدات منكرة لحصوله باستثناء تغريدة واحدة.
أول تغريدة لترامب حول التغير المناخي كانت في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2011: «أثلجت بسماكة 4 إنشات (10 سم) في نهاية الأسبوع الماضي في مدينة نيويورك. ما زلنا في أكتوبر/تشرين الأول . هذا كثير جداً بالنسبة للاحترار العالمي». في هذه التغريدة نلاحظ أن ترامب خلط بين مفهوم الطقس كحالة جوية موقتة وبين مفهوم تغير المناخ كظاهرة ممتدة على فترة طويلة يتبدى الاحترار كأحد اتجاهاتها العالمية. هذا الخلط بين مفهوم الطقس والمناخ تكرر في 55 تغريدة، أي أن 46 في المئة من تغريدات ترامب المناخية كانت ترى في الأجواء الباردة برهانا كافيا لعدم حصول تغير مناخي.
آخر تغريدة مناخية لترامب كانت في 19 أكتوبر 2015، وهي أيضاً تتضمن خلطاً بين الطقس والمناخ. ومن الملاحظ أن ترامب نشر تغريدتين فقط تتعلقان بالمناخ بعد إعلانه الترشح لمنصب الرئاسة في تموز (يوليو) 2015. فإذا علمنا أن أغلب الأميركيين، بمن فيهم 68 في المئة من المسجلين كناخبين، يعتبرون التغير المناخي أمراً قائماً، كما ظهر في تقرير صادر عن جامعة يال في خريف 2015 وفي تقارير أخرى، فإن مصلحة ترامب أوجبت التوقف عن إثارة هذه المسألة، والاكتفاء بإطلاق الوعود المؤيدة أمام الفئات المتضررة من إجراءات مواجهة التغير المناخي تحت غطاء دعم الصناعة الوطنية وتوفير فرص العمل.
تحوّلات تحكمها مصالح
بعد انتخابه رئيساً، أجرت صحيفة نيويورك تايمز حواراً مع ترامب، قال فيه عن العلاقة بين الأنشطة البشرية والتغير المناخي: «أظن أن هناك صلة ما. يوجد شيء ما، وهذا يعتمد على مقدار ذلك. كما يعتمد على مقدار التكاليف التي ستتحملها شركاتنا. يجب أن تعلموا أن شركاتنا غير منافسة حالياً. أنا منفتح الفكر تجاه التغير المناخي».
هذا التحول في تصريحات ترامب التقطه وزير الطاقة الجديد ريك بيري، المعروف هو الآخر بإنكاره للتغير المناخي، فإذا به يقول: «أعتقد أن المناخ يتغير، وأعتقد أن بعض هذا التغير ناتج عن أسباب طبيعية، ولكن بعضه أيضاً يتسبب به النشاط البشري».
من الواضح أن مسألة التغير المناخي لدى فريق ترامب ليست قضية مبدئية ترتبط بالعلم والأخلاق بقدر ما ترتبط بالمكاسب السياسية على الصعيد الحزبي وبالمنافع الاقتصادية على المستوى الوطني. ولهذا من غير المستغرب أن نرى في المستقبل تحولات كبيرة في المواقف، إذا كانت هناك مكاسب ومنافع تنسجم مع مواجهة التغير المناخي.
الكثيرون يصفون ترامب بأنه زعيم ديماغوجي يسعى لكسب الدعم عن طريق مخاطبة الرغبات الشعبية والأفكار المسبقة، بدلاً من استخدام الحجة العقلانية. لكن الإجراءات التي طبقها خلال مئة يوم من توليه الرئاسة تؤكد الاصرار على محاولة تنفيذ وعوده المتطرفة بشتى السبل. ومع ذلك، فإن هناك وقائع أصبحت راسخة في الحياة الأميركية بفضل السياسات التي سارت عليها وكالة حماية البيئة خلال السنوات الماضية، وأيضاً بفضل التنافسية التي فرضتها مصادر الطاقة المتجددة حول العالم. هل يستطيع ترامب تجاوز هذه الوقائع؟ الأمر مستبعد في بلد يسوده القانون وتتمتع فيه منظمات المجتمع المدني بنفوذ كبير.