حتى اليوم، في تقويم يكتظ بالأحداث الفنية في جميع أنحاء العالم، لا معرض أكثر أهمية من معرض «دوكيومنتا»، المعرض الألماني الضخم للفن المعاصر، حيث تتم فيه إعادة الاكتشاف كل خمس سنوات؛ باعتباره متحف الـ «100 يوم». تلك مقدّمة تقرير كتبه جاسون فاراغو في صحيفة «نيويورك تايمز»، ونشر يوم الأحد (9 أبريل/ نيسان 2017)؛ أي في اليوم الثاني لافتتاح المعرض في نسخته الرابعة عشرة، وذلك يوم السبت الماضي، من قبل الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، ونظيره اليوناني بروكوبيس بافلوبولوس في العاصمة اليونانية (أثينا)، وتستمر الفعاليات في جانبها اليوناني حتى 16 يوليو/ تموز 2017. أما الفعاليات التي ستجري في مدينة كاسل الألمانية، وهي الموقع التاريخي للمعرض فتنطلق في 10 يونيو/ حزيران، وتستمر إلى 17 سبتمبر/ أيلول المقبل.
المعرض سيحمل شعار «من أثينا نتعلَّم»، ومن دون شك سيتناول المعرض من خلال جملة أعمال وأعمال تركيبية موضوع الأزمة المالية والاقتصادية التي تعيشها اليونان منذ سنوات، والتي زاد من حدَّتها تدفق اللاجئين؛ وخصوصاً من سورية بسبب الحرب المُدمّرة التي تشهدها منذ أكثر من 6 سنوات.
وسيتوزَّع المعرض على 40 موقعاً مختلفاً في اليونان، تلازمه فعاليات وأنشطة على صلة بالحدث العالمي، بمشاركة 160 فناناً من دول مختلفة، يقدِّمون أعمالاً تمثّل اتجاهات ومدارس فنية متنوّعة، فعلاوة على الفنون المعاصرة، الأكثر حضوراً، سيتم تنظيم عدد من الفعاليات والنقاشات وورش العمل التي تضيء مختلف الاتجاهات والمدارس الفنية، إلى جانب برنامج رحلات لاستكشاف المدينتين: أثينا وكاسل.
الفن بعد دمار المدينة
منذ العام 1955، حيث نسخة المعرض الأولى في مدينة كاسل الألمانية، تشهد هذه النسخة تواجد المعرض خارج المدينة التاريخية التي خضعت لأعمال تدمير بفعل قنابل الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. تبدأ أثينا بالجزء الأول منه، لتشهد مدينة كاسل الجزء الثاني من فعالياته في شهر يونيو المقبل.
ما لا يعرفه كثيرون أن هذا الحدث الفني العالمي بدأ أول الأمر مشروعاً لدعم معرض للحدائق، ليحتل مكانته اليوم باعتباره أشهر معرض متعدِّد الاتجاهات والمستويات في العالم، ليسجِّل ما يقترب من 6 عقود من التجربة الغنية التي حظيت بثناء العالم.
عودة إلى تقرير فاراغو الذي يشير فيه إلى أن من بين 13 فعالية للمعرض حتى الآن، أصبحت اثنتان منها مدار الحديث في تاريخ الفن الحديث. في نسخته الخامسة، التي ترأسّها السويسري هارالد زيمان في العام 1972، عمد إلى دعم كبير للأعمال المتنوّعة بكل تعقيداتها والإشكالات المرتبطة بها، بحسب ما صرح به رئيس أمانة المعرض في أحد دوراته مانفريد شنكينبيرغر، حيث يتذكّر التصاميم الفوضوية في حينها. النسخة الخامسة تقارب بين اللوحة والنحت مع الفن المفاهيمي والأحداث التي كانت تحتل المشهد العالمي وقتها.
الفن والنظام البيئي العالمي
يُضيء تقرير فاراغو جانباً من الحدث، متناولاً نسخة «دوكيومنت 11» التي نظمت في العام 2002م، من قبل النيجيري أوكوي إنويزور، والتي دعت إلى قيام نظام بيئي عالمي مع أوروبا، بحيث لا تُطلق يد دولة بحكم إمكاناتها وقاعدتها الصناعية لتهديد هذا الكوكب؛ لكن كل نسخة من «دوكيومنتا»، منذ نسخته الأولى في العام 1955، كانت «بمثابة بيان حول الملاءمة الفنية والاتجاه الحاليين» اتساقاً مع الأحداث التي تدور في العالم، وكل نسخة من ذلك الحدث الفني تمت في مدينة كاسل، وهي بلدة غير ساحلية شمال فرانكفورت دُمّرت بقنابل الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
الطبعة الرابعة عشرة من دوكيومنتا التي يقودها أمين عام المعرض البولندى آدم شيمتشيك، البالغ من العمر 46 عاماً، تتقاسمها مدينتا كاسل وأثينا، حيث تعاني الثانية من أزمات متشابكة على مستوى التمويل والهجرة، كما أنها عاصمة دولة كانت علاقاتها الأخيرة مع ألمانيا في حدود الدور الإغاثي بسبب الأزمة المالية التي مُنيت بها. وكان شيمتشيك والجزء الأكبر من فريقه يقيمون في اليونان منذ سنوات.
سيتعيّن الانتظار حتى يونيو كي تتضح صورة المعرض في شقّه الثاني الذي سينطلق في مدينة كاسل. «هذا ما يمكنني قوله الآن» بحسب شيمتشيك. إذا كان المعرض قصيراً جداً، مقارنة بالنسختين الباهرتين في عامي 1972 و2002، فإن قرار شيمتشيك نقْل «دوكيومنتا» يظل صائباً. نسخة «دوكيومنتا هيلينيزد»، تبدو قوية أحياناً، وغالباً ما تكون غامضة، بينما في أماكن تبدو فخورة تماماً بنفسها. يقول فاراغو: «يسمح المعرض للشباب كثير الترحال في مدن العالم إلى المضيِّ نحو تلمّس المحلية، ضمن حياة سهلة ورخيصة». ومع ذلك، فإن أهم موضوعات العرض - الهجرة، والديون، والوحدة الأوروبية المتصاعدة، والسوابق التاريخية للشعبوية والتعصب اليوم - هي أمور استهان بها الأثينيون لسنوات. الآن بعد أن أصبحت مثل تلك المشاكل تمتد إلى جميع أنحاء العالم، قد تكون اليونان أفضل مكان للإمساك بمثل تلك القضايا، والمساهمة في وضع حلول لها.
40 مليوناً موازنة دوكيومنتا
هناك أعمال فنية لنحو 160 مشاركاً، وجميعها تقريباً ستظهر في مدينة كاسل. من بين الأسماء المشاركة من هو مألوف، مثل الرسامين الأميركيين فيجا سلمينس، آر. إتش كايتمان وستانلي ويتني، علاوة على عشرة فنانين ربما لم يتم يسمع بهم أحد من قبل لأسباب ربما تتضح أثناء عرض الأعمال.
هنالك ما يشبه الصُداع بسبب الجوانب البيروقراطية والمالية المُصاحبة للمعرض، ومثل تلك الأمور ليست عَرَضية بالنسبة إلى شيمتشيك الذي اختار العمل مع المؤسسات العامة بدلاً من متاحف أثينا الخاصة. وذهب جزء منصف من موازنة دوكيومنتا البالغة 37 مليون يورو (نحو 40 مليون دولار) إلى مؤسسات الفن اليوناني المُفلسة تقريباً.
من بين الأعمال البارزة في المتحف الوطني الجديد للفن المعاصر فيلم»Trepoli Canceled»، وهو فيلم لافت للفنان المقيم في نيويورك نعيم مهيمن، تم تجهيزه على طائرة من طراز 747 متوقفة في مطار هلينيكون المتداعي في أثينا. يتحرك الطيّار من خلال حركة الإعلان عن أوقات الرحلات، إلا أن الطائرة لا تقلع. تظل جاثمة مكانها. ومثل عدد لا يُحصى من المهاجرين ممن تُمنع تحركاتهم بسبب لوائح الاتحاد الأوروبي، تظل هذه الطائرة عالقة في اليونان. هنالك فيديو آخر، للفنانتين البريطانيتين روزاليند نشاشيبي ولوسي سكاير، يعيد النظر في المواقع التي رسمها بول غوغين في تاهيتي، ولكن النساء اللاتي تم تصويرهن نادراً ما يرتدّ إليهن طرفهن. هذا الفيلم، هو نموذج لكيفية تصوير الثقافات الأخرى من وجهة نظر أخلاقية، ويمنحنا درساً في ألاّ نخجل من المخاطر التي تنطوي عليها مثل تلك الأعمال والمبادرات.
إلغاء الديون بثمار حجرية
إن علاقة اليونان المضطربة مع ألمانيا تجد شكلاً مثالياً لدى جماعة الضغط في المتحف الوطني الجديد للفن المعاصر. هنالك صندوق كبير مليء بآلاف من حبات الزيتون؛ حيث يجسد فكرته عمل الفنانة الأرجنتينية مارتا مينوجين، فبدلاً من الحُمق، تقترح أن يتاح لليونانيين قدْر من فرصة إلغاء الديون مقابل «ثمار حجرية».
ثمة تذكير في المعرض من الأكروبوليس بأن العلاقات بين اليونان وألمانيا هي أقدم بكثير من منطقة اليورو. كان أول ملك لليونان بافارياً، بعد أن حصلت البلاد على الاستقلال من العثمانيين قبل قرنين من الزمان. وعلينا هنا أن نتذكر أن كلاً من فرنسا وبريطانيا وروسيا أقامت في العام 1830م مملكة يونانية مستقلة بمقتضى معاهدة دولية؛ حيث وصل الملك أوتو إلى اليونان في فبراير/ شباط 1833م واتخذ من ناوبليون عاصمة لمملكته، ولم تكن أحوال أثينا تسمح حتى العام 1835 بأن تكون مقراً للحكم. ولما كان الملك الجديد في الثامنة عشرة من عمره فقد اصطحب وصياً اختاره أبوه ملك بافاريا لو دفيج. ولأن لودفيج كان معنياً بنجاح ابنه في الحكم فقد اختار له مجموعة من الإداريين والمستشارين على درجة عالية من المهارة. وقام بتعيين الكونت جوزيف فون أرمانزبرغ رئيساً لمجلس الوصاية المعروف باتجاهاته الليبرالية وخبراته الهائلة في العمل في بافاريا.
تاريخ الفن نفسه، واقعاً، هو اكتشاف يوناني ألماني. كانت جماليات الفن بروسية من القرن الثامن عشر (اسم كان يطلق أصلاً على المقاطعة الألمانية التي أطلق عليها لاحقاً اسم بروسيا الشرقية. سميت المنطقة على اسم السكّان الأصليين البروسيين ذوي الأصول البلطيقية).
ضوء لابد منه
يذكر، أن كاسل مدينة تقع في وسط ألمانيا في ولاية هسن، يصل تعداد سكّانها إلى 200،507 نسمات. بها جامعة تسمى باسمها، وقد أنشئت العام 1971. يمر بها نهر صغير يسمى نهر فولدا. بها تواجد كبير للجالية التركية، وتمتاز بقلعتها المعروفة باسم هيركولس المطلة على جميع أنحاء المدينة وضواحيها، يقام فيها كل خمس سنوات معرض دوكيومنتا وهو أكبر معرض للفن الحديث في العالم.
تشكّل مدينة كاسل النقطة الوسط لطريق الخرافات الألمانية والتي هي عبارة عن طريق سياحية رومانسية تمتد من مدينة هاناو إلى مدينة بريمن. ولقد عاش الأخوان فيلهلم وياكوب غريم في كاسل واشتغلا فيها. وفي هذه المدينة قاما بين العام 1812 و1815 بتجميع الجزء الأكبر من مجموعتهم للخرافات التي اكتسبت شهرة عالمية. إن «بياض الثلج» و«الأقزام السبعة» و«ليلى والذئب» و«سندريلا» خرافات يعرفها كل طفل في ألمانيا. ولقد تمت ترجمة خرافات الأخوين غريم إلى ما يزيد على 140 لغة وباتت جزءاً لا يتجزأ من خرافات وأساطير الثقافات الأخرى. ومن الطبيعي أن يحظى التراث الذي تركه الأخوان غريم بالعناية والرعاية من قبل مدينة كاسل.
وبعيداً عن الفنون والخرافات، فإن مدينة كاسل وقبل كل شيء خضراء. فنحو ما يقارب الثلثين من مساحتها عبارة عن حدائق ومنتزهات عامة. وفيما عدا ذلك تسود فيها العمارات الحديثة. فالمدينة التي أسست قبل ألف عام تقريباً قد لحق بها، شأنها شأن العديد من المدن الألمانية الأخرى، دمار كامل وشامل أثناء الحرب العالمية الثانية. وبعد نهاية الحرب العام 1945 تم بناء مركز المدينة على الطراز الوظيفي الذي يتسم بالمتاجر الكبيرة وشوارع التسوق.