هل هناك ما هو أصعب من السير حافيا على الأشواك، قابضا على الجمر، الأفاعي تجوس بين رجليك، وفوق رأسك تحوم الغربان؟

تلك هي المهمة الأشق، والمعادلة الأصعب في الحياة. فالإبحار في هذا الخضم الهائج المائج، حيث الكل يتجاذبك، يريد أن تكتب ما يدعمه ويؤيده وتقول كلمة في صالحه، فإن لم تفعلها فأنت ضده. وإذا اتخذت موقفا وسطا فلن يرضى عنك أحد. ألا يذكرك ذلك بقصة جحا وولده، اللذين لم يرض عنهما الناس يوم ركبا حمارهما ويوم نزلا عنه، سواء نزلا أو ركبا على ظهره معا... حتى اضطرا إلى رميه في الساقية وذهبا مشيا على الأقدام!

إحدى المشاكل التي تواجهك هو الموقف الحدي، «معنا أو ضدنا»... هذا المبدأ الغريب الذي عبّر عنه الأمبراطور جورج بوش بصريح العبارة: «إما أن تكون معنا في محاربة الإرهاب، وإما أن نصنّفك مع الإرهابيين...!» ومن تعاسة العالم المعاصر وهو يخطو العتبة الثانية في القرن الجديد، أن تفرض عليه هذه المعادلة الهوجاء... ولا خيار.

وإذا كانت الدول الصغيرة لا تستطيع خلاصا من قوانين الدول الآمرة الناهية المتحكمة في مصائر العالم اليوم، إلا أن من الصعب القبول بهذه المعادلة على مستوى بلد صغير يخطو خطواته الأولى على الدرب الصعب الطويل، والمعوقات كثيرة. من أهمها موقف البعض الذي اعتاد على النظر إلى نفسه كواحد من آلهة اليونان، وعمله بأي دائرة أو وزارة حكومية مرعى خصبا، وأن أهله ومعارفه من الملائكة الحافين من حول العرش، لا يتسع صدره للنقد، ولا يتحمل سماع أنة متظلم، فضلا عن كلمة حق من مصدور. فإذا تجرأ أحد وقالها اعتبر خارجا على أعراف القبيلة وقوانين المدنية وشرائع السماء. وعليه تصدر الأوامر لتبدأ حفلة «الزيران»، التي تفح فيها الأفاعي وتنعق الغربان!

«معنا أو ضدنا» ليس مبدا جديدا اخترعه الامبراطور الجديد بوش، وإنما له أمثال ونظائر، من حياتنا المعاصرة كما رأينا ونرى، وكذلك لنا منه إرث قديم متراكم عبر القرون. ولا أظنني مبتعدا عن التشخيص الصحيح إذا ما أرجعته تاريخيا إلى تلك الساعة المشئومة، حين وقف معاوية وقد أحس بدنو أجله ليقبض البيعة لابنه يزيد، ووقف أحد المنافقين المتملقين متوعدا: «إن هلك هذا - معاوية - فهذا - وأشار إلى يزيد - ومن أبى فهذا» وأشار إلى السيف المرفوع فوق الرقاب المطأطئة إلى الأرض.

النظرية واحدة، والمفهوم واحد... والمطلوب أن تنضم إلى جوقة العازفين، والسيف بانتظار من يرفع رأسه ليتنفس... إذن: سياسة بوش ليست بدعة ولا اختراعا أميركيا، وإنما لدينا من أشكالها في الشرق الكثير.