حينما يكون رئيس أكبر دولة في العالم قد وصل لمنصبه دون أي سابق خبرة سياسية أو حكومية، وحينما يكون هذا الرئيس معروفاً بتغيير مواقفه وباعتماده على منطق «رجال الأعمال» والصفقات التي تبحث عن الربح بغض النظر عن المبادئ، فإنه حتماً من الصعب التنبؤ بما سيفعله في فترة حكمه. وربما ما حدث أخيراً من ضربات عسكرية أميركية لقاعدة جوية سورية خير مثال على الغموض الذي يحيط الآن بالخطوة التالية لإدارة ترامب ولكيفية ردود الفعل عليها، تحديداً من موسكو التي تدعم الحكومة السورية، والتي لها قواعد بحرية وجوية على الأراضي السورية.
الملفت للانتباه أن ترامب لم تصدر منه حتى الآن أي إدانة لموسكو أو اتهامات لها بشأن المزاعم عن استخدام الطيران السوري لسلاح كيماوي، بينما صرّح بذلك أكثر من مسئول في إدارة ترامب، وربما هذا ما يريح ترامب حيث أن تعدد وتناقض المواقف من أعضاء إدارته بشأن سورية وروسيا سيسمح له مستقبلاً باختيار المناسب منها دون التزام الآن بموقف محدد يقيد سياسته.
وزير الخارجية الأميركي تيلرسون يؤكد على استمرار سياسة أولوية المواجهة مع «داعش»، بينما السفيرة في الأمم المتحدة تتحدث بمضمون مخالف. أعضاء جمهوريون بارزون في مجلس الشيوخ (ماكين، غراهام، روبيو) يطالبون ترامب بتصعيد التدخل العسكري في سورية وبأولوية إسقاط حكم بشار الأسد والتشدّد أكثر مع موسكو، بينما القاعدة الشعبية المحافظة التي أوصلت ترامب للبيت الأبيض تريد «أولوية أميركا» وعدم التورط في حروب خارجية، إضافةً طبعاً لأصوات كثيرة في الكونغرس الأميركي تدعو ترامب للعودة إلى الكونغرس قبل أي خطوات عسكرية جديدة.
زيارة تيلرسون لموسكو مهمة جداً لأنها ستحسم أياً من هذين الاحتمالين هو الأقرب إلى الواقع: الاحتمال الأول، أن إدارة ترامب قد مارست ضغطاً تكتيكياً لتحقيق مكاسب سياسية داخلية ولتعزيز موقفها التفاوضي مع موسكو بشأن مستقبل سورية، أمّا الاحتمال الآخر فهو وجود تحوّل في استراتيجية ترامب بحيث اختار التصعيد العسكري في سورية كمقدمة لتصعيد مع إيران ولتحجيم نفوذها بالمنطقة، وإرغام موسكو على الخيار بين مصالحها مع الغرب أو تورطها أكثر في الشرق.
حسب تقديري فإنّ الاحتمال الأول هو الأرجح، لأن تبعات الاحتمال الثاني لم تقدم عليها إدارة بوش الابن، وما كان فيها من «محافظين جدد» ومشاريع لفرض امبراطورية أميركية تهيمن على العالم كله. فهو خيار يورط أميركا عسكرياً فيما هو أوسع وأخطر مما حدث في العراق وأفغانستان، وقد يصل إلى حد حرب عالمية تنغمس بها الدول الكبرى، إضافةً إلى النتائج السيئة لهذا الخيار على الصعيد الداخلي الأميركي وعلى الاقتصاد العالمي بأسره.
لذلك، أجد أنّ الاحتمال الأول هو الأقرب للواقع الآن، وربما هناك من نصح ترامب بتعديل اللهجة والأسلوب دون تغيير في مضمون السياسات التي اعتمدها في حملته الانتخابية، والتي عبّر عن جانب منها الوزير تيلرسون قبل أيام قليلة من الضربات العسكرية في سورية، حينما كان يتهيأ لزيارة موسكو، فتحدّث عن أولوية مواجهة «داعش» وحل الأزمة السورية سياسياً وترك مصير الرئيس بشار الأسد لانتخابات في ختام التسوية السياسية المبنية على القرار 2254.
ووفق ترجيح الاحتمال الأول، فإنّ الضربات العسكرية الأميركية المحدودة التي حصلت على مطار الشعيرات حققت لترامب جملة أهداف أهمها:
1.وقف الحملة الإعلامية والسياسية التي كانت مشتعلةً بشأن علاقة فريق ترامب الانتخابي مع مسئولين في موسكو، والتي كانت تهدد رؤوساً مهمة في إدارة ترامب. (تُرى كيف كان تيلرسون سيذهب لموسكو في ظل الحملة لو لم تحصل الضربات العسكرية والتصعيد السياسي مع روسيا؟)!
2.تمرير تعيين القاضي المحافظ نيل غورستش في المحكمة الدستورية العليا دون الحصول على غالبية الستين عضواً في مجلس الشيوخ، حيث مرّ هذا الأمر بلا ردود فعل شعبية وسياسية بسبب انشداد الأميركيين لما حدث في سورية، ولما يمكن أن يحدث لاحقاً. فهذه هي أميركا التي يقف شعبها وإعلامها وقادتها خلف الحاكم عند حدوث تطورات عسكرية وأمنية مهمة. ألم يحدث ذلك مع بوش الابن بعد 11 سبتمبر 2001 وعشية الحرب على العراق؟
3. إرضاء عدد من القيادات في الحزب الجمهوري الذين كانوا يضغطون على ترامب لاتخاذ مواقف أكثر شدةً مع موسكو وفي وسورية وضد إيران، كما هي أيضاً مطالب «اللوبي» المؤيد لإسرائيل ولحكومة نتنياهو.
4.تبرير الزيادة التي طلبها ترامب للميزانية المخصصة لوزارة الدفاع (البنتاغون)، وهي زيادة بنحو 60 مليار دولار تُضاف على 600 مليار دولار، وهو مبلغ سيتم توفيره على حساب ميزانية إدارات صحية واجتماعية وتربوية. فالتصعيد العسكري في سورية هو عذرٌ كافٍ لزيادة الميزانية العسكرية.
5.زيادة نسبة التأييد الشعبي لترامب بعد وصولها إلى أدنى مستوى لها بالمقارنة مع رؤساء أميركيين سابقين، وهذا أمر مهم جداً لترامب شخصياً بما يتصف به من غرور ونرجسية وحرص على كيف يراه الناس والإعلام. وفعلاً زادت نسبة تأييد ترامب في الاستطلاعات بعد الضربات العسكرية، وقد أشاد به أيضاً عددٌ من خصومه في الحزب الديمقراطي، وصرّحت هيلاري كلينتون مؤيدةً لقراره ومطالبةً بضربات أوسع وأكبر!
6.إظهار ترامب بصورة الرئيس الأميركي القوي القادر على اتخاذ قرارات صعبة، خاصة بعد فشله في عدة قضايا في أسابيعه الأولى بالبيت الأبيض وفي مقدمتها قانون حظر السفر والمشكلة مع المكسيك بشأن الجدار الحدودي.
إضافةً لذلك كلّه، فإن الضربات العسكرية الأميركية لاقت تأييداً واستحساناً من حلفاء لأميركا في منطقة الشرق الوسط، وهو أمر تحتاجه إدارة ترامب في إطار تخطيطها لبناء «شرق أوسطي جديد» تكون مقدمته إقامة مؤتمر إقليمي في الصيف القادم، يبحث في كل أزمات المنطقة ويحقق تطبيعاً عربياً مع «إسرائيل»، ويجعل واشنطن هي صاحبة القرار الأول في مصير كيانات المنطقة وحكوماتها.
إقرأ أيضا لـ "صبحي غندور"العدد 5334 - الجمعة 14 أبريل 2017م الموافق 17 رجب 1438هـ
بالتوفيق للرئيس ترامب في تغير النظام الطائفي الاقلوي في سوريا كلنا ندعم الرئيس و أمريكا عندما يكون العدو مشترك فكل من تحالف مع ايران عدو و يستحق القصف
أفسّر لك الموضوع ببساطة: الرئيس الامريكي قبض مليارات وللمجاملة ضرب ضربته بعد ان اخبر الروس الذين بدورهم اخبروا السوريين فنقلوا ما استطاعوا من طائرات من المطار . بمعنى انها ضربة مجاملة مقابل ثمن مدفوع مسبقا