لا تتجاوز مقالات الكاتبة العُمانية الشابّة مدرين بنت خميس المكتومية، تلك التي تضمَّنها إصدارها الأول «بين أسْر وعشق... خربشات على جدران الحياة»، الانطباعات والتأملات في حدودها الدنيا، والأفكار العابرة، أو تلك التي تمَّت معالجتها وتناولها ببرَّانية واضحة. أقول الأفكار العابرة، ربما، لأنها لم تأتِ تعميقاً لمفاهيم سبق تناولها، ولم تكن على متاخمة مع لغة أدبية فارقة ومُلفتة، على رغم أن الناشر أعطى لنفسه حق تصنيف الإصدار باعتباره «أول إصدار أدبي» للمؤلفة. الكتاب صدر عن مؤسسة الرؤيا للصحافة والنشر، في الشقيقة سلطنة عُمان في العام 2017م وتكوَّن من 152 صفحة من الحجم المتوسط.
رئيس تحرير صحيفة «الرؤية» العمانية التي نشرت الإصدار، الكاتب والزميل حاتم الطائي، كتب على الغلاف الأخير «تستوقف الحادي في فصول ومقالات هذا الكتاب تلك الانسيابية والسهولة في التعبير، فينجذب لنمط كتابي جديد بـ (قلم شبابي)، أثّرت فيه الكثير من المُعطيات التي نعايشها اليوم، كانعكاس لأحداث ووقائع تأثّر بها قطاع عريض من أبناء هذا الوطن، فأنتجت جيلاً صاعداً من الكتّاب الجُدد، يزدادون باطراد عاماً تلوَ العام؛ بفضل قدرات ومواهب جديرة بالدعم والتحفيز».
لا أدري ما هو النمط الكتابي الجديد الذي وقف عليه الزميل والصديق الطائيّ! التجربة الإبداعية العربية ومنذ أكثر من نصف قرن لم يتجرأ اسم من بين أسمائها الكبيرة، على القول بأنه صاحب نمط كتابي جديد. ولم نقف على نمط كتابي عربي جديد طوال تلك العقود، ولم تتجاوز التجارب تلك صدى تجارب في الداخل؛ أو محاولة التماهي مع تجارب في الخارج. تجارب عالمية يأتي التماهي معها، ربما، في أردأ الدرجات والمستويات. وقليل من بين تلك المحاولات ما يمكن أن يقف عليه القارئ بإعجاب وإكبار الجهد.
من حقنا أن ندفع بالتجارب الجديدة وأن نشجِّعها، وأن نتغاضى - بأبوَّة - أحياناً عن بعض مساحات من الوهن والركاكة والمباشرة، ولكن ليس من حقنا - أخلاقياً، ومسئولية أيضاً، أن نضع بعض التجارب الشابة، وضمن تجاربها الأولى في مستويات هي خطرة عليها، وقد تُرْدِيها، من خلال تلك الأحكام المُرتجلة والعاطفية ضمن جرعتها الزائدة في كثير من الأحيان، والتي قد تكون قاتلة للتجربة، إذا تهيأت ظروف رواج لمثل تلك العاطفة، أو إذا استمر النظر إلى ما يتم إنتاجه بأبوَّة دائمة لا فطام فيها للأبناء.
صدى الأحداث
الكتاب هو عبارة عن مجموعة مقالات نشرت في «الرؤية»، تتتبَّع أحداثاً، أو تتطرّق إلى ظواهر، ويمكن وضعها ضمن خانة المقالات التي تهتم بالموضوعات الاجتماعية، ويغلب عليها التعليق في كثير من الأحيان، وجاءت بلغة بسيطة ومباشرة، وتلك طبيعة الكتابة الصحافية في غالب الأحيان، وقد تتخلّص من البساطة والمباشرة إذا ما كانت أسبوعية، بعكس العمود اليومي من حيث طبيعته وإيقاع تعاطيه ما يدور في العالم من شئون وقضايا وظواهر، فمساحة العمود الأسبوعي تتيح فضاء أوسع بالانتقال في موضوعاته وتناولاته وحتى لغته، إلا أن ذلك الفضاء لم يتجلَ في محتويات الكتاب، على رغم نعْتِها بـ «النتاج الأدبي».
هل قلتُ كتابات هي صدى لأحداث... تجارب؟ المكتومية نفسها، تثير جانباً من ذلك في مساحة من مقدَّمتها للكتاب، أو ما هو قريب من ذلك «إنها رحلة الحياة... رحلة طويلة مرامها استنطاق الأحداث، وتدوينها ومعالجة زواياها؛ فتتشابك فيها المحاولات لتنسج خيوطاً لمفاهيم حياتية جديدة؛ إما أن تضيء الأمل، فتغرد فيها الروح أعذب الألحان، وهي تترسّم طريقها نحو مستقبل أكثر نقاء، أو تتعثّر على صخرة الظروف وتعْس الحظوظ، فتنطوي فيها الذات على نفسها، وتتداخل عليها اتجاهات الخروج؛ حيث لا ضوء هناك في آخر النفق».
في هذا المقام، وبحسب ما ورد في جانب من المقدِّمة التي تم الاستشهاد بها، لا أدري ما هي المفاهيم الحياتية الجديدة، ربما نترك ذلك للمقبل من الأيام، فقد يترشّح تبيان أو إضاءة على جوانب من تلك المفاهيم.
في رؤية تقريبية، لا تتجاوز مقالات الكتاب تلك المساحة: مساحة المباشرة، وإعادة طرْق موضوعات أُشبعت تناولاً، بلغة هي أشبه باللغة اليومية، وإن خضعت للمستويات الدنيا من اللغة والأسلوب الصحافي الذي لا ينشغل - بطبيعة العمل المباشرة - بالذهاب بعيداً في حشد اللغة والمجازات والاستعارات وغيرها؛ عدا الإيغال في الرمزية التي تكاد تكون وقفاً على جوانب مُحدّدة من الأجناس الأدبية، أولها الشعر، أو النص المفتوح، من دون أن يعني أن المباشرة في النص هي مسبَّة في الأوقات والمعالجات كلها.
خربشات
في المقدِّمة التي تصدَّرت الكتاب وبقلم المكتومية، وحتى من خلال العنوان الفرعي للإصدار، تشير أن الكتابات التي تضمّنها «(هي خربشات على جدران الحياة) نتمرّد فيها على البدايات بخياراتها المحدودة، وأقدارها المكتوبة، ونعالج فيها واقعاً تتشابك فيه التفاصيل، محدقين العينين؛ إحداهما على الذكريات، والأخرى على المستقبل؛ وبين هذه وتلك يبقى (الأمل في غد أفضل)، هو طوق النجاة والسبيل الوحيد المؤدّي لشطآن الاستقرار الداخلي ومصالحة النفس؛ التي تتجدّد بين ثناياها بدايات مختلفة لتجارب جديدة تمنح حياتنا متعة أفضل وتعايشنا مغايراً مع الواقع».
النتاج الأدبي له شروطه التي لا يمكن القفز عليها، لا بفعل العاطفة، ولا بفعل التغاضي عن آليات النظر إليها باعتبارها إضافة في كل عمل من الأعمال، أو ذلك هو المفترض به، وما يأتي استنساخاً لأعمال أخرى لا يمنحه صفة عمل أدبي، وإن شحذ الأدوات التي تتطلّبه. المطابقة لا تصنع خلقاً جديداً.
الكتاب في نظرة أخرى، وتقييم لا ينفصل عمّا سبق، وفي مساحات كبيرة منه لا يتجاوز الخواطر... والخواطر في لغتها المباشرة، أحياناً تقترب التجربة من المقال، لتنأى عن شروطه وبنْيَته. كتاب يستحق القراءة لكنه ليس نمطاً أدبياً جديداً يا صديقي حاتم الطائي، بكل الوزن والحضور الذي تتمتع به في الفضاء الإبداعي العُماني، والمسئولية التي يمثلها قلمك، قبل إطلاق أحكام ووصفات وصفات مجانية دون تردد.
يفتقد هذا العصر، الذي توافرت فيه للأصوات وللمواهب الشابَّة الكثير من المنصّات والفُرص والإمكانات السهلة، خلاف الزمن الذي كنا عليه، يفتقد إلى تأنّي أبنائه في الدفع بما ينتجون إلى المطابع. كأن الهدف يتحدَّد أولاً وأخيراً في أن تخرج بإصدار إلى القرَّاء، ولا يُهم بعد ذلك العمل على إنضاج التجربة، وعلى أقل تقدير، العمل على تطوير ما يُعتقد أنها تجربة تستحق أن تجد طريقها إلى النشر. دور النشر... المطابع من جهتها لا مشكلة في الأمر بالنسبة إليها. المشكلة ألَّا تتحرّك عجلتها بطباعة ما يمكن قراءته أو ما لا يمكن حتى النظر إليه، أو ما يسيء إلى حيِّز ما... في ركن ما... في مكتبة ما من البيت!
خريطة الكتاب
احتوى الكتاب على ثلاثة فصول ضمّت مقالات حملت العناوين الآتية: الألوان في حياتي، الحب الافتراضي، الحُبُّ الذي لا سبيل له، الغربة الشرقية، روزنامة الفصول، المطر... بداية الحكاية، الوردة الحمراء، أحبك رغم اختلافنا، بوسطن وكيوبيد، بين أروقة سكن الطالبات، حلم النهضة، العلاقات أخلاق، رحيل، صُدْفة... في يوم ماطر، كاظم... وعشق الكلمات، كيمياء الحب أربعة، مساء غير عادي، حديث النفس، من بقايا الطفولة، من قلب موروني، ذكريات برائحة القهوة، وُعُود العابرين، استمروا في القلق، الأمراض الوراثية... أخطاء الآباء وآلام الأبناء، التحرُّش... تغليظ العقوبة رادعاً، التعليم في البيت أولاً، الجيل الإعلامي، الحريات وحدودها، ومن منا لا يحب السفر؟، «أشوبا»... العاصفة والرأي العام، تهادوا... تحابوا، لا علاقات كاملة، صومعة ميونيخ، مفتاح السعادة، ثلاثية السلام والتعايش والتعاون، فن إدارة الحياة، قابوس... الوطن، لننجح في اختبارات الحياة، ماذا تريد المرأة؟، ماذا يريد الرجل؟، محاربة الفساد بالشفافية، في الخاطر، متلازمة «نفاد الصبر»، هنا وهناك، الإدّخار في ظل الأزمات، أصدقاء الإنستغرام... لايك... كومنت، الأبوّة ليست وظيفة شرفية، أحلام الشباب العماني، أريد حلاً، أزياء مطوَّرة بمفردة عُمانية، ثقافة السؤال، «وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً، القلب يبكيك يا أبا سيف، رغم أنفهم، أحبك رغم اختلافنا، شكراً لـ «التراث والثقافة»، صعوبات الزواج، علاقة وفْق معرفة مُطْلقة، رجل وامرأة، مهما صغرت... فهي مسئوليتنا، ملاَك لا يبتسم، «الرؤية» وريادة الأعمال، هل الجامعة حرام؟، وأخيراً، هنا وهناك.
يذكر، أن مدرين المكتومية حاصلة على دبلوم في الصحافة والإعلام والعلاقات العامة من جامعة صحار. شهادة البكالوريوس في العلاقات العامة من كلية البيان. تعمل لدى صحيفة «الرؤية» كمحرّرة صحافية منذ العام 2010م. تكتب عموداً أسبوعياً ينشر كل أربعاء في الصحيفة نفسها.
من الكتاب... مهما صغرت... فهي مسئوليتنا
كل صباح أفتح نافذتي الصغيرة المُطلّة على بيوت الحيّ الذي أسكنه، كل شخص منهمك في عمله، حتى طلاب المدارس يرتدون أفضل ملابسهم بانتظار حافلة المدرسة، كل منهم استيقظ لهدف، لشعور داخلي بالمسئولية تجاه عملاً (الصحيح: تجاه عملٍ) ما يجب عليه أن ينجزه، كل منهم يستشعر ذلك بروح المسؤولية والواجب الوطني؛ فحين تكون مسؤولاً تجنِّب نفسك الوقوع في الأخطاء، وتعطي نفسك مزيداً من النجاح والتقدم، وتكسب ثقة الآخر لك.
حين كنت أخطئ في صغري، كنت أخاف من الضرب أو توبيخ والديّ لي، كنت أخاف من غضبهما عليَّ، كنت أختلق الأكاذيب والخُدع والأعذار لأخرج نفسي مما تسبَّبت فيه، مع أنني صغيرة، إلا أنني كنت أشعر بقيمة انزعاج الآخر من تصرفاتي، كان همّي الوحيد أن أكون بالصورة التي يتمنّاها والدي لي، كبرتُ وكبُرَتْ مسؤولياتنا في الحياة، تجاوزنا تلك النظرة لنا من قبل أبوينا، أصبح كل منا مسؤولاً تجاه أسرته وعمله، مسؤولاً عن كل تصرفات، حتى إنني في بعض الأحيان من شدّة ما أشعر به من ثقل الحياة، أتمنى أن أعود طفلة تُربى في كنف والديها. كل النعم والخوف والمشاعر التي نعيشها في طفولتنا تتلاشى مع الوقت، حتى نعتاد على استلام زمام الأمور، ولنصنع لأنفسنا كياناً وقاعدة بين الآخرين من بني جنسنا.
المسؤولية لا تعني أنني بحاجة إلى تغيير، بل تحتاج إلى شعور داخلي نابع من أنفسنا أن هناك أشياء يجب علينا الاهتمام بها وإنجازها قبل كل شيء، إلى إيماننا بأن تكون أكبر من حدود النظر للوقت، والتفكير في الساعة التي قد تتوقّف يوماً ما معك على عمل لم يُنجز أو على قصور كنت تستطيع تقديمه بصورة أفضل. المسؤولية ليست عادة أو مبدأ، بل هي قيمة إنسانية قبل كل شيء، نشأنا بين أب وأم كل منهم لديه مسؤولياته تجاه البيت والعمل وتجاهنا كأطفال، كل منهم كان يقوم في الوقت بأكثر من عمل وينجزه في ساعته، كل منهم كان يبحث عن الأفضل لنا بالاجتهاد والعمل الدؤوب، كل منهم كان يصحو من الفجر حتى لا نذهب إلى للمدرسة دون مصروفنا المدرسي أو وجبة الإفطار، كانت نظرتهم لنا قبل أن نكبر بأننا سنكون يوماً في المكان الذي لم يصلوا إليه، كان سعيهم نابعاً من المسؤولية تجاه تربية أبنائهم تربية صحية سليمة، تعزّز فيهم قيم النجاح والاجتهاد، وتصنع منهم أفراداً يحملون على عاتقهم «هَمَّ الوطن» قبل كل شيء، هم كانوا مُدركين للتغيّرات التي ستطرأ علينا فكانوا يؤهّلوننا لنكون ذخيرة جيدة لمستقبل واعد، عزّزوا بداخلنا قيم المسؤولية والعمل، جعلونا نبحث عنها في كل مكان، حتى أصبحنا نشعر أن كواهلنا ما عادت تتحمّل أكثر مما نحن عليه، ونتمنى لو نعود للمدرسة... فهناك من يستيقظ صباحاً لراحتنا، من يهمه، من يهمه أن يكون جدول المواد الدراسية متكاملاً، ومن يختار تسريحة شعرنا، من يقلّب في الصباح الباكر محفظته الشخصية ليخرج لنا المصروف، من ينتظر منا أن نكون على قدر المسؤولية التي قدّمها لنا يوماً، فما علينا إلا أن نرفع شعار المسؤولية تجاه كل عمل مهما كان حجمه وقدره.
الله يرحمها برحمته الواسعه