معارضة الحكم تعني وجود قوى سياسية لا تعترف بالشرعية الحاكمة إلا إذا تحققت شروطها، ومعارضة الحكومة تعني وصول قوى المجتمع للتوافق على شرعية الحكم والمؤسسات التشريعية القائمة وبالتالي الانتقال لمعارضة سياسات وبرامج السلطة التنفيذية، وهي المعارضة السائدة في جميع الديمقراطيات الأصيلة والحقيقية حيث تتصارع وتتنافس الأحزاب في الانتخابات للوصول للسلطة التشريعية وتداول السلطة التنفيذية عبر السيطرة على مقاعد البرلمان وتشكيل الحكومات الأمر الذي يعني انتقال باقي الأحزاب لصف المعارضة ضد الحزب الحاكم أو الدخول في ائتلافات وتحالفات للتشكيل الوزاري.
الانتقال من معارضة الحكم لمعارضة الحكومة في تلك المجتمعات الديمقراطية قد تحقق بعد أن تم إنجاز متطلبات دستورية وقانونية وحقوقية وسياسية، وتم حسم العقد الاجتماعي والتوافق على ثوابت الأمة، ومن دون تحقيق ذلك في بعض المجتمعات التي تمارس الديمقراطية الشكلية ومنها البحرين فإن معارضة الحكم ستكون مستمرة من قبل بعض القوى السياسية.
في البحرين لم يكن هناك توافق مجتمعي شامل على شرعية الحكم منذ الانتداب البريطاني، حيث برزت قوى سياسية إصلاحية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي طالبت بالمشاركة السياسية والإصلاحات وتخفيف احتكار السلطة، وبرزت قوى قومية وناصرية في الخمسينيات من القرن الماضي طالبت بنفس المطالب، وبرزت قوى قومية ويسارية في الستينيات من القرن الماضي طالبت بالحقوق السياسية والاقتصادية والعمالية وأهمها المشاركة السياسية في صنع واتخاذ القرار.
في تلك المراحل التاريخية كانت قوى اجتماعية/ سياسية أخرى وبالأخص التيارات الإسلامية أما متحالفة مع الحكم أو محايدة في الصراع السياسي.
مع إعلان الامبراطورية البريطانية الإنسحاب من شرق السويس بدأت المفاوضات بين الأسر الحاكمة في دول الخليج العربية للوصول إلى صيغة الاستقلال السياسي المنشود لهذه الدول.
وفي البحرين كشفت الاتصالات الرسمية وغير الرسمية وتم التوافق على خلق إجماع شعبي حول عروبة البحرين أمام إدعاءات شاه إيران محمد رضا بهلوي وبإشراف الأمم المتحدة، على أن يقوم الحكم بالإجراءات الدستورية المتعارف عليها للوصول إلى تأسيس العقد الاجتماعي بين الشعب والأسرة المالكة تمهيدا لتثبيت الشرعية الدستورية عليها ومن ثم الانتقال من معارضة الحكم لمعارضة الحكومة.
وهكذا تم إجراء انتخابات للمجلس التأسيسي الذي صاغ دستورا عقديا متطورا نسبيا أصبح بمثابة العقد الاجتماعي الذي يعطي الشرعية الدستورية للحكم، وفي ضوئه تم إجراء انتخابات تشريعية لانتخاب ممثلي الشعب للمجلس الوطني.
في هذه المرحلة السياسية القصيرة الممتدة من 1973 - 1975 بدأت تحولات ملموسة لدى القوى السياسية التي كانت لا تعترف بالشرعية وتحولات مرافقة للانتقال من معارضة الحكم إلى معارضة الحكومة تحت قبة البرلمان، ومع ذلك بقيت قوى سياسية خارج هذا الحقل السياسي واستمرت في معارضتها للحكم تحت منطلقات أن ما تحقق هي ديمقراطية ترقيعية وشكلية، وأن متطلبات أخرى لابد من توفيرها قبل المشاركة في التجربة الديمقراطية، كما بدأ الاصطفاف السياسي للتيارات السياسية بين معارض وموالٍ للحكومة والحكم، وكان واضحا وجود نوع من التحالف بين التيارات الإسلامية السنية منها والشيعية مع الحكم لمواجهة التيارات القومية واليسارية التي كانت آنذاك مهيمنة على الساحة العربية بل والعالمية.
لم تستمر هذه التجربة لتأخذ مداها ونضجها وتحولاتها المتوقعة وتعزيز قيم وثقافة الديمقراطية والتشاركية والمحاسبة والرقابة، ولتترافق مع هذه التحولات، تحولات في بنية القوى السياسية المعارضة للحكم أو للحكومة، حيث تم حل المجلس الوطني وتجميد بعض مواد الدستور العقدي، لتعيش البحرين عهدا مظلما امتد من 1975 ولغاية تولي جلالة الملك سدة الحكم العام 1999.
في هذه الفترة الذي ساد فيها قانون أمن الدولة رجعت جميع القوى السياسية إلى معارضة الحكم وإلى الإعلان عن لا شرعيته بعد أن تم إلغاء العقد الاجتماعي المبرم بين ممثلي الشعب والأسرة المالكة.
ودخلت قوى سياسية إسلامية شيعية في صف معارضة الحكم وذلك بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران حيث تم التحول الفكري والسياسي للتيار الإسلامي الشيعي ورموزه من متحالفين مع الحكم أو محايدين إلى معارضين له. وبقيت تيارات إسلامية سنية في تحالفها القوي مع الحكم ولم تبرز في صفوفها أية معارضة تذكر سوى بعض رموزها الدينية التي دخلت في صف المعارضة أثناء العريضة الشعبية والنخبوية وما لبثت أن خرجت منها.
بإعلان الملك عن إصدار الميثاق الوطني وتعهد رموز الحكم باحترام الدستور العقدي واعتباره مرجعية لإعادة العقد الاجتماعي، على أن يتم تعديلان عليه فقط هو مسمى البلاد ويترك موضوعه للملك، وإضافة غرفة أخرى للشورى يتم تعيين ممثليها من قبل الملك لتواصل الغرفة المنتخبة دورها التشريعي والرقابي بحسب ما ورد في الدستور العقدي.
عند هذا المفصل توافقت القوى السياسية جميعها والتي كانت معارضة للحكم وللشرعية على التصويت الإيجابي على الميثاق على أمل عودة الحياة للعقد الاجتماعي، وبالتالي الانتقال من معارضة الحكم إلى معارضة الحكومة عبر آليات الديمقراطية ومؤسساتها التشريعية والقضائية والحقوقية والسياسية وغيرها.
صدور دستور 2002م غير العقدي والذي خالفت مواد عديدة فيه مضمون الدستور العقدي أدى إلى عودة معظم القوى السياسية لصف معارضة الحكم، مع اصطفاف سياسي جديد أصبحت فيه التيارات الإسلامية السنية متحالفة مع الحكم وقابلة لهذا الدستور الجديد.
وما عزز استمرار وتأصيل معارضة الحكم مراسيم القوانين التي صدرت بشأن الدوائر الانتخابية ومباشرة الحقوق السياسية.
الحكم ومنذ صدور دستور المنحة نفذ استراتيجية (تكسير العظم) والإصرار في التمسك بصحة إجراءاته وتنوع في تكتيكات جديدة لم تكن تمارس من قبل لتعزيز هذا النهج، منها الانتقال من القمع الأمني المباشر إلى القمع عن طريق القانون الذي يقول بشأنه المفكر عصمت سيف الدولة في دراسته (الطريق إلى الديمقراطية أو سيادة القانون) «المستبدون اليوم يقهرون الناس ويستعبدونهم استعبادا قانونيا، تنفيذا لحكم أصدره قضاة، وتطبيقا لقانون وضعه مشرعون، في نطاق دستور موضوع».
وفعلا وفي ظل سيطرة الحكم على المجلس الوطني تم تمرير الكثير من القوانين المتعارضة مع مبادئ الحرية والحقوق الأساسية وحق التعبير والتنظيم الحزبي والصحافة، فضلا عن مراسيم قوانين صدرت في غياب هذه المؤسسة (التشريعية!) امتلأت بمواد خانقة للحريات والحقوق.
بجانب هذا التكتيك دخل الحكم في لعبة الإعلام وخلق مؤسسات إعلامية موالية ومحرضة ضد المعارضة بجانب خلق مؤسسات مجتمع مدني حقوقية وسياسية موالية، فضلا عن شخصيات وأقلام صحافية وإعلامية، ولقد كشف التقرير الذي أصدره مستشار الحكومة السابق صلاح البندر الكثير من هذه التكتيكات لتعزيز استراتيجية الحكم المتعلقة بخلق اعتراف إجباري به عن طريق تعزيز الأمر الواقع الدستوري والقانوني والسياسي الذي رفضته المعارضة.
منذ العام 2002 م ولغاية 2008 م استمر الحكم في ممارسة ما يسمى (بإدارة الأزمة الدستورية) ورافق ذلك إدارة جملة من الأزمات التي أنتجت عن الأزمة الأم والمتمثلة بالأزمة السياسية من خلال مقاطعة أربعة تنظيمات سياسية انتخابات العام 2002م، وأزمة أمنية برفض الحكم تحقيق خطوات جادة في مجال العدالة الانتقالية وإعادة الاعتبار لضحايا مرحلة أمن الدولة، بل بالعكس صدر مرسوم يحمي الجلادين من أي عقاب، وحتى اعتذار وطلب العفو كما حدث في التجربة المغربية وتجربة جنوب إفريقيا.
ولذلك لم تكن في أجندة الحكم أية سياسة لحل الأزمة وإنما استمرار إدارتها والمراهنة في تفكيك المعارضة وتشظيها وذلك بعد أن تمكن العام 2002م من إخراج بعض التنظيمات السياسية من صف المعارضة السياسية التي قاطعت أكبر تنظيماتها الانتخابات، وانضمت إحدى التنظيمات الإسلامية السنية الموالية للحكم لفترة من الزمن فقط للصف القائل بضرورة الحوار عن المسببات الدستورية والسياسية والحقوقية والاقتصادية لهذه الأزمات التي ما أن تهدأ إحداها لتنفجر الثانية وهكذا دواليك، ولكن كان للحكم مفهوم آخر يتمثل في مقولة (قل ما تشاء ونفعل ما نشاء).
أمام استمرار تشبث الحكم باستراتيجية فرض الواقع الدستوري غير العقدي، ومواصلة العملية السياسية في خلق الاحتقانات الطائفية بل والمصالح الطائفية التي عززتها هذه العملية، وإهمال تام لمفهوم حيادية الدولة وبقائها فوق الصراعات الطائفية والحزبية وانحيازها لصالح التنظيمات والفئات التي دعمت مشروع الحكم السياسي الذي سمي بمشروع الإصلاح.
في ظل هكذا أوضاع تمكن الحكم في خلق المزيد من التفكيك في صف المعارضة، ولكنه بالمقابل نتج عن ذلك المزيد من القناعات في صحة استمرار معارضة الحكم وعدم الانتقال إلى معارضة الحكومة، مادام الحكم رافضا تنفيذ إجراءات ضرورية لتعزيز الشرعية الدستورية.
تجلى هذا السلوك في فرض قانون الجمعيات السياسية على التنظيمات السياسية غير المعترفة بالدستور المنحة، حيث اشتمل هذا القانون على مواد تجبر الجميع على الاعتراف بدستور 2002 م بجانب تدخلات أخرى في الشئون الداخلية للتنظيمات.
كان هذا مؤشر آخر أدى إلى بروز المزيد من القناعات بصحة استمرار معارضة الحكم، وعلى الرغم من أن فرض هذا القانون قد خلق انشقاقا مؤثرا في صف المعارضة الشيعية ببروز حركة (حق) التي رأت أن قبول الجمعيات السياسية المعارضة بهذا القانون يعني بداية الاعتراف بدستور 2002 م وبداية القبول بالأمر الواقع غيرالدستوري بالعملية السياسية الشكلية.
عند هذا الفصل والمفصل الذي لحقه بمشاركة جميع التنظيمات السياسية في انتخابات العام 2006م برز اتجاهين في الصف المعارض:
الاتجاه الأول والمتمثل بحركة (حق) والحركات الاجتماعية الشعبية غير المنظمة وهو الاتجاه الذي يرفض العمل السياسي الراهن وبالتالي استمرارية معارضتها للحكم.
الاتجاه الثاني: المتمثل ببعض التنظيمات السياسية المعارضة التي قبلت المشاركة في الانتخابات العام 2006 م، مع استمرار قناعتها بمعارضة الحكم، وهي وقد دخلت قبة البرلمان تحاول أن تستمر في معارضة الحكومة، وتقارع السماء! في تحقيق انتصارات دستورية وسياسية واقتصادية، وكشفت التجربة أن ما تحقق سوى تعزيز المزيد من الاصطفافات الطائفية وتحقيق بعض المكتسبات لصالح الطائفة أسوة بالمكتسبات للطائفة الأخرى.
في هذا الاتجاه الثاني تشترك معظم التنظيمات السياسية التي أعلنت المشاركة ولكنها لم تنجح في توصيل مترشحيها في استمرار معارضة الحكم وعدم الاعتراف بالدستور المنحة، وواضح من خطابها السياسي والإعلامي ومواقفها بأنها لم ترضخ عمليا للأمر الواقع الذي يحاول الحكم تعزيزه، ولكن خلق هذا النهج الجبري المزيد من مقومات التربة الموضوعية المناسبة لتعزيز القناعات في استمرارية نهج معارضة الحكم.
متطلبات أخرى للتحول المطلوب:
بجانب جوهر الأزمة الدستورية التي تقف كحاجز وجدار ضد الشرعية الدستورية المنشودة، وهو جدار بدل من أن يفتح فيه الحكم المزيد من الحفر والثغرات لينهار ويتم التحول الديمقراطي على أساس تعزيز العقد الاجتماعي، أخذ عبر إجراءاته وممارساته وفرضه للأمر الواقع والمنهج الجبري والآذان غير الصاغية والتكتيكات التآمرية وغيرها قد أخذ يقوي الجدار ويحوله من جدار كان رمليا فترة الميثاق إلى جدار اسمنتي بعد صدور دستور 2002م إلى جدار حديدي بعد ذلك.
نقول بجانب هذا الجوهر هناك متطلبات أخرى للانتقال من معارضة الحكم إلى معارضة الحكومة وأهمها تحقيق مبدأ العدالة الانتقالية، وتنفيذ مبادئ حقوق الإنسان بشكل صادق وحقيقي، والإيمان الحقيقي بمبدأ الحريات العامة والخاصة وتعزيزها في القوانين بدل تقليصها تحت مبررات الفوبيا من المؤامرات والإرهاب وغيرها.
وفي هذا الشأن فإن تحقيق مبدأ العدالة الانتقالية يصبح ضرورة مجتمعية حيث إنه مرتبط بأحداث وكثرة من المواطنين الذين تضرروا من مرحلة أمنية قمعية كانوا فيها معارضين للحكم، ومسألة انتقالهم لمرحلة سياسية ونفسية جديدة تتطلب غلق هذا الملف عبر تنفيذ إجراءات متعارف عليها دوليا مع مراعاة خصوصية المجتمع، وهناك منظمات وتجارب عالمية يمكن الاسترشاد بمعاييرها لإنجاح هذا المتطلب.
البحرين مازالت بعيدة عن الحقل السياسي الديمقراطي المطلوب، ممارسة (لعبة) السياسة فيه من قبل القوى السياسية المعبرة عن مصالح الطبقات الاجتماعية، ففي ظل تداخل عوامل موضوعية ترتبط بالثوابت الوطنية الدستورية والشرعية وغيرها والتي لم تحسم بعد، مع عوامل موضوعية مرتبطة بممارسات وسياسات وبرامج الحكومة ومراقبتها ومحاسبتها ومعارضتها وتأييدها، فإن هذا الحقل يصبح عامل توتير وخلق المزيد من الأزمات بدلا من أن يكون حقلا لامتصاص الاحتقانات وتخفيف الأزمات.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 2496 - الإثنين 06 يوليو 2009م الموافق 13 رجب 1430هـ