يأتيك مثقف ويعطيك من «المواعظ الوطنية» ما تفوق «مواعظ عبدالناصر» أيام مجده القومي. وتقترب منه فتكتشف ان كل هذا الضجيج الوطني وكل هذه البكائيات الخنسائية الممسرحة على «المكتسبات» يعني بها مكتسباته الشخصية والذاتية فهو وحده يريد ان يعيش وليس بالضرورة ان يموت الناس جوعا.
لا أعتقد ان من يسرق الوطن يعد وطنيا مهما زايد على الناس ومهما حاول ان يحمل الشعار لينصبه في كل مكان، فالوطنية لا تتجزأ، فكما انها تشمل الولاء الوطني والشعور بالانتماء والاعتزاز بالتمسك بالأرض، كذلك هي تشمل كل الممارسات السياسية والاقتصادية والثقافية أفتؤمنون ببعض الوطن وتكفرون ببعض؟!!
وهذا الخطاب موجه إلى كل من يحاول ان يزايد في ذلك على الناس والمجتمع. فالتاجر الذي يحتكر السوق على حساب المواطنين الفقراء لا يعد رجلا وطنيا لأنه نظر إلى ذاته وإلى تضخم حساباته الخاصة وعلى حساب المجتمع، ولو كان على حساب خنق الناس.
المتنفذ الذي يسرق الدولة والمجتمع ويضعف من صدقية دولته فيؤثر على حركة الاستثمار إذ أن رأس المال جبان فإنه لا يعد وطنيا في المعنى الحقيقي للكلمة. من يخون وطنه وسيادة وطنه السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية لا يعد وطنيا، من يقسِّم المجتمع إلى سنة وشيعة، من يحرق الوطن بفتنة مقال، خطبة، تكتل، مظاهرة، تشكيك ليس وطنيا. من يصبح طابورا خامسا ويعمل عملا مزدوجا فهو كذلك، من يعمّم الحكم على جميع الناس لأخطاء مجموعة في رفع شعار ليس وطنيا. إذا الوطنية ليست لباسا نلبسه بحسب المقاييس التي نفصلها، فنجعله كتهمة الارهاب في المعيار الدولي تقاس وتفصل حسب المزاج الدولي.
يقول الشاعر الشهير نزار قباني في كتابه «الكتابة عمل انقلابي»: «إن التاجر الذي خبأ في حرب تشرين أكياس السكر والرز والطحين، وباعها بضعف أسعارها هو سمكة قرش وكذلك أصحاب مستودعات الخشب، والحديد، والورق، الذين جمعوا خلال الشهور الأخيرة ثروات خرافية لم يجمعها روكفلر ولا أوناسيس هم أسماك قرش...».
حقيقة هذه ممارسات لا إنسانية وجريمة تقترف في حق المعدمين والضعفاء.
أحيانا نجد بعض التجار يتصرف كوحش لا يتورع عن أكل كل ما يصادفه من أرض ومصانع وبشر. وهذا النوع من التوغل في سياسة «التكويش» يكون حسابها كبيرا على الوطن والدولة والمجتمع، لأنه يعمل على تكريس الطبقية وفرز بؤر احتقان اجتماعية تغلي على نار الاحباطات الاقتصادية والنفسية. الشعور بالغبن الاجتماعي والتهميش الاقتصادي عاملان أساسيان لعدم الاستقرار السياسي.
ليس من المنطق ان يعيش جزء كبير من المواطنين ـ وعلى شتى مشاربهم ـ تحت ضغط المعيشة القاتلة وتحت ثقل الديون وتدني الدخل المحدود في حين تبقى كل الفرص متاحة ومهيأة في سباق علني للتضخم الاقتصادي الذاتي للتجار والمقربين من أصحاب النفوذ للوزراء والمديرين وغيرهم. فهم المتضخمون في كل المراحل والقابضون على المناصب، والواجهات والصحافة... في كل المراحل وكل وقت.
ولعل القيمة التي تميز بها بعض الوزراء الجدد هي عدم دخولهم في القطاع التجاري وهذه ميزة نحمد الله عليها كثيرا. لأنه على رغم وضوح المادة الدستورية التي تنص على عدم اشتغال الوزير بالتجارة فإن القضية أصبحت تتجه إلى العكس، فالمواطن لا يكون وزيرا إلا إذا كان تاجرا!
ومن يقرأ تجربة العقيد الفار كيف جمع التجارة مع النفوذ فحقق الثروة يكتشف مدى خطورة (اشتغال) وليس (انشغال) المتنفذ بالتجارة وكيف يكون خطره على الموازنة العامة وعلى سمعة الوطن وعلى أموال المواطنين. إن أمثال هؤلاء هم العقبة الكأداء أمام المشروع الإصلاحي لأنهم لا يرون إلا امبراطوريتهم المالية فيتضخمون حتى يصبحوا احجارا تقف من دون تحرك العجلة خصوصا إذا تناسب ذلك مع التأدلج السلبي والقراءة الاستاتيكية للطرف الآخر المعارض الذي ينبغي ان يتفاعل بما يخدم المشروع العام. بعض التجار (الوطنيين) مازالوا قادرين على تمثيل دور البُهلول فهم يكسبون في كل المراحل حتى لو كانت هذه المراحل متناقضة في ملامحها. المهم ان يتضخموا ولقد أثبتت التجارب العربية ان أكثر هؤلاء (الحواشي) هم الذين يورطون الدول مع مجتمعاتها ويأخذون من رصيدها ويكونون على حساب الصدقية خصوصا إذا كان الكثير منهم لا يمتلكون ألف باء الثقافة. هؤلاء هم العالة المزرية التي تكون على حساب الدول والمجتمعات. لقد أسماهم المفكر جمال حمدان «المثقفين المدجنين» يتحركون «سعيا وراء الرزق والمال والرفاه المادي». وتجدهم أول المنفعلين إذا ما سعى إنسان لكشف الفساد في وزاراتهم أو إداراتهم. وهم حاضرون لخلط الأوراق ووسمك (بعدم الوطنية) لأنهم يرون كشف المستور إضرارا وحربا معلنة على مصالحهم الخاصة. فكأنما أصبحت الوطنية صفة ملازمة لسرقة الأموال العامة والتستر عليها فإما أن تكون كذلك وإلا فأنت لست وطنيا. وإنك أشبه ـ في قاموسهم السياسي الخاص ـ بمن يأخذ دور الشيطان.
في حين انك تسعى بذلك النقد لأجل إيجاد حال من التوازن حتى لا تصبح العملية كلها وكأننا في مرحلة مهرجان شعري كبير مما يكون له انعكاس سلبي على كل حياتنا سوى حياة أولئك المنتفعين من هذا اللون المدائحي من الانتهازيين (أعداء الوطن والدولة والمجتمع) الذين يكونون على حساب الجميع بمن فيهم الدولة. لأن هؤلاء المنتفعين لا يهمهم كثيرا حلحلة مشكلات الناس وإخراجهم من كهفهم المعيشي الخانق أهم شيء ان يقبضوا من الجميع.
لقد أصبحت 40 في المئة من شعوبنا تعيش تحت خط الفقر وذلك بسبب تلك الفوضى الاقتصادية والسياسية المتخلفة في العالم العربي بسبب سوء التخطيط، غياب العمران الحقيقي المتوازن مع رفع دخل الفرد وليس رفع دخل التاجر والارستقراطي، أو لصالح الأجنبي الذي أصبح يمتاز بصلاحيات تفوق المواطن.
فلو جئنا إلى مصر مثلا فإن متوسط دخل الفرد في مصر (الفرد الذي يجد عملا بأجر 300 جنيه مصري في الشهر) في حين يحصل «نظيره الأميركي الذي يقوم بالعمل نفسه داخل مصر على 4000 جنيه مصري شهريا». وهذه حال عربية نحن مصابون بها في البحرين أيضا بعض قطاعاتنا.
مستوى دخل المعلم العربي يفوق مستوى دخل المعلم البحريني في القطاع التعليمي والامتيازات التي يحظى بها تفوقه بكثير على رغم عدم أهلية بعض هؤلاء. مثال: المعلمون التونسيون بعضهم بل أكثرهم لا يستطيعون توصيل المعلومة للتلاميذ خصوصا في المراحل الابتدائية بسبب صعوبة اللهجة وفوق ذلك هم وغيرهم من اخواننا العرب يمتازون بصلاحيات تفوق المواطن.
نحن لا نعترض على احتضان العرب بقدر ما نستاء من تعاملهم بطريقة متميزة على المواطن وهذا ما لا تقوم به أية دولة عربية تجاه مواطني الدول الأخرى العاملة في الدولة المضيفة ذاتها، بل نجد ما هو أدهى من ذلك فلاتزال مشكلة 80 خريجا بحرينيا من المعهد العالي عالقة «ومازالت شهادات تخرجهم غير مقبولة بسبب قرار سريع غير مدروس من قبل وكيل وزارة التربية حسين بدر السادة الذي كان المسبب الأول في حرمانهم من حق التوظيف على رغم ان الوزارة هي التي شجعتهم على الدراسة وهي التي أعلنت عن المعهد المذكور. هؤلاء راحوا ضحية القرارات المستعجلة: قرار الوكيل ألغي 80 شهادة بكالوريوس لطلبة بقوا 4 أعوام من الدارسة ودفع الرسوم.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى وزارة الخارجية، فوزارة الخارجية مازالت صامتة أمام أزمة الشاب سامي سمير الذي خطفت زوجته وابنه. فهذا الشاب يعاني من احباط داخلي شديد ويحتاج إلى حل قضيته فإن أقل القليل ان يترافع عنه نخبة من المحامين لاسترجاع عائلته. فإلى متى سيكون هذا الصمت. أين هي الصحافة وكتّاب الأعمدة (الوطنيون)؟ وأين هي الجمعيات السياسية والعلماء والنخب من قضية هذا الرجل؟. نحن الآن في الألفية الثالثة ولسنا في زمن الغاب ليأتي رجل ويختطف عائلة من دون ان يخاطب أو يوقف ويتمادى في موقفه وفي فصل الزوج عن زوجته بحجج شرعية، فأين هم علماء الدين وأين هي خطبهم؟ أم ستبقى فقط في مسألة «استحباب السواك» و«حرمة الغيبة والنميمة»؟ الناس شبعوا من هذه البحوث. فالناس تحتاج إلى من يعالج همومهم، معيشتهم، أوجاعهم وآلامهم. في مجتمعنا العربي يحرّم عليك انتقاد حتى بغلة الوزير أو عنزته وإذا ما أصاب عنزته شيء فسرعان ما ترى أزمة سياسية كبرى. في حين ـ وهنا تكون المفارقة ـ يصبح تغييب عائلة بأكملها ظلما وعدوانا وفي وضح النهار، تصبح «مسألة فيها نظر»! تهانينا.
وختاما نقول: مازال الناس في انتظار حل مثل هذه القضايا ونحن ككتاب مازلنا ننتظر القانون الجديد للصحافة بتعدل مواده لصالح الصحافة ودور النشر وليس لصالح الرقيب ولو كان برتبة وزير.
كما اننا في انتظار «نقابة صحافية» تليق بنضال 25 عاما للقلم والمعرفة والثقافة، فلقد صمنا 25 عاما عن الكلام كي نفطر على (كبسة) قوانين وليس على بصلة مواد، فهل سيكون ذلك حلما أم واقعا في الأيام المقبلة خصوصا اننا احبطنا كثيرا لرؤية تشكيلة البرلمان الحالي وخصوصا المعينين إذ ان الكثير منهم سيعاني من أزمة حقيقية أمام «كاميرا» الإعلام وهي تدور في التقاط التصريحات السياسية العملاقة أو في الصحافة؟ وتبقى إدارة الأوقاف «التجارية» عفوا أقصد الجعفرية محكا آخر من خلاله نستطيع قراءة المستقبل المقبل.
كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 78 - الجمعة 22 نوفمبر 2002م الموافق 17 رمضان 1423هـ