قال الإمام علي (ع) في ذكرى أصحابه من الخلفاء الراشدين:
ذهبَ الرجالُ المقتدى بفعالهم
والمنكرونَ لكلِّ أمرٍ منكرِ
وبقيتُ في خَلَفٍ يزيِّنُ بعضهم
بعضا ليدفعَ مُعْورا عن معْورِ
سلكوا بُنيات الطريق فأصبحوا
متنكبين عن الطريق الأكبرِ
هكذا كان الإمام علي (ع)، يرى الخلفاء الذين سبقوه، وهكذا كانت أهمية الرجال وقوتهم واجتماع كلمتهم على إنكار المنكر، ولهذا كانت دولة الخلفاء الراشدين دولة العز والتقدم والفتوحات والنصر. لم يكن يخاف على المسلمين حينها من الفتنة وتفرق الصف لأن من حملوا الأمانة على عاتقهم كانوا رجال الرسول (ص)، وهم من تربوا التربية الإسلامية الصحيحة وأخذوها من منهلها النوراني الصافي، وهم الذين عاشوا معه (ص) في كل حركة وسكنة ووحي ورضى وغضب، فاجتمعوا مع نبيهم الرسول (ص) وخلفائه من بعده يخافون على وحدة الصف من التشتت والفتن التي كان يثيرها المبغضون للإسلام بين حين وآخر، ومن العدو الكافر القوي من الخارج، فعملوا على إخماد العنصرية والطائفية بحروبهم ضد اليهود وبحروبهم ضد المرتدين عن الإسلام.
ولو قرأنا في أوراق متفرقة من تاريخ حروب الماضي للعرب وللمسلمين لوجدنا أن الغرب كان عدوا للعالم العربي والإسلامي منذ بدايات الحروب الصليبية، وهو على رغم الوجوه المختلفة التي يظهر بها سيظل وجهه الأصلي يؤكد أنه عدو الإسلام وعدو وحدة كلمة الإسلام في كل زمان ومكان. ومن علماء اليوم يذكّرنا العالم الكبير محمد سعيد البوطي بقول ثاتشر حينما كانت رئيسة وزراء بريطانيا: «لقد كان أمام الغرب عدوان اثنان: أحدهما الشيوعية والثاني الإسلام، وقد انهار صرح الشيوعية من دون أن يقدم الغرب خسائر تذكر، واليوم يجتمع الشرق الكاثوليكي والأرثوذكسي مع الغرب في خندق واحد لمجابهة العدو الباقي وهو الإسلام». واليوم يتابع بوش وأعضاء حكومته هذه السياسة ليقولوا إن عدوهم الأول هو الإسلام، وأصبح شغلهم الشاغل أن ينصبوا أنفسهم زعماء للعدل والديمقراطية، وأن يعملوا على تخليص الشعوب من الظلم الذي يقع عليها من حكوماتها الإسلامية كما يريدون.
فهل في كل ما يدور حولنا من فتن وترويج إشاعات، ضد الإسلام المسلمين وعدالة الشورى والأخذ بالديمقراطية الإسلامية، ما يجعلنا نتوقف عن تناسي أهمية الوحدة الإسلامية العربية ووسطية نظرة الإسلام إلى الدنيا، بما فيها من نعيم زائل، وإلى الآخرة بما فيها من نعيم أزلي دائم، ونقتدي بالرعيل الأول الذين نشأت على أيديهم الحضارة الإسلامية، فلو لم يستهينوا بالدنيا ويضعوها في الموضع الذي جعلها الله فيه إذن لوقعوا في نطاق جاذبيتها لما نالهم منها سيلان اللعاب وراءها ولارتدوا إلى أوطانهم خاسرين. لكنهم التزموا الوسطية التي رباهم عليها الإسلام وفيها: استخراج حب الدنيا وأهوائها من القلب ثم سوقها بزمام التسخير والاستخدام لعمارة الأرض وإقامة المجتمع الإسلامي الصحيح، فأخضع الله لهم الدنيا من أقطارها وسيّرها وراءهم بمقدار ما تساموا عليها.
وهذا يذكرنا بكلمة قالها الشيخ محمد مهدي شمس الدين ـ رحمه الله ـ في أحد المؤتمرات الإسلامية التي عقدت في الجزائر: «مهما كانت اجتهاداتنا وآراؤنا، يجب ألا ننسى أن علينا أن نتمسك بحجة سنمضي بها إلى الديّان يوم القيامة وسيسألنا الله عنها، ألا فلنعلم أنها العمود الفقري في حل كل مشكلة ومعضلة، نحن سائرون إلى نهاية، ونهايتنا وقفة بين يدي الله سبحانه وتعالى، وأمام ذلك المصير ستذوب عصبياتنا وتنمحي انتماءاتنا، ولسوف ننسى ما كنا ندافع عنه ربما من أهواء ورغبات وشهوات، ونجدنا أمام الحقيقة العارية التي نُدبنا في هذه الحياة للدفاع عنها والتمسك بها، فماذا نحن قائلون، وبأي منطق ندافع آنذاك عن مواقعنا اليوم؟».
ونحن نتكلم عن وحدة الصف العربي الإسلامي لا ننسى ما يثار من مشاعر طائفية ضد مظاهر الحب والتبجيل التي يتمسك بها المسلمون في حبهم لآل البيت وأولاد الحسن والحسين (ع)، وحزنهم على مقتلهم. هذا الحزن الذي يشترك فيه كل مسلم يحب رسول الله (ص) ويحبه أهله، ففي بيت شعر من قول الإمام الشافعي (رض) يدافع الإمام الكبير عن حبه لآل البيت الكرام (رض) بقوله:
إنْ كانَ رفضا حبُّ آلِ محمدٍ
فليشهدِ الثقلانُ أني رافضي
ويشارك الإمام البوصيري الشاعر الكبير في محبة الله ورسوله (ص) وآل بيته رضي الله عنهم أجمعين بقوله:
آلَ بيتِ النبيِّ طبتم فطابَ
المدحُ لي فيكمُ وطابَ الرثاءُ
أنا حَسَّانُ مدحِكُم فإذا نُحْتُ
عليكُمْ فإنني الخنساءُ
سُدْتُمْ النَّاسَ بالتُّقى وسواكمْ
سوّدتهُ البيضاءُ والصفراءُ
فابكهم ما استطعتْ إنّ قليلا
في عظيمٍ من المصابِ البكاءُ
غير أني فوضتُ أمري إلى
اللهِ وتفويضي الأمورَ براءُ
والحقيقة، لو كنت أريد أن أجمع ما قيل في التراث والكتب من اجتماع كلمة علماء المسلمين على كثير من الأمور لاحتجت إلى صفحات طويلة، ولكني أعمل على إحياء ذاكرة المتعصبين ضد وحدة الصف العربي الإسلامي ببعض النماذج المذكورة عن تصرفات أعظم الرجال وهم آل بيت رسول الله ومن تربوا على أيديهم وفي أحضانهم، وأحاسب نفسي وأحاسب كل مسلم بقطع النظر عن مذهبه وانتمائه، فلا أجد مسلما صادقا مع الله إلا وهو مقتدٍ في سلوكه ومشاعره بآل بيت رسول الله (ص).
والإمام علي بن أبي طالب (ع) اندمج في فكره وسلوكه مع الكلمة الجامعة ومع النهج الإسلامي العام فقادنا بحبه لجمع كلمة الأمة إلى الاقتداء به ونهج سلوكه الذي نهجه، وما يظهر من اختلافات اجتهادية مجردة بين المسلمين موجودة فعلا في جميع المذاهب الإسلامية، وأن الذي يفرقنا إنما هو تراث العصبية المذهبية الخطيرة التي أشعل أوارها أعداء الإسلام والتعصب وأصحاب المصالح الخاصة.
وحينما أقرأ سيرة الإمام علي (ع) وقد اتخذه الخلفاء الراشدون الثلاثة من قبله، مستشارا، بل ربما أميرا غير متوَّج، فأبوبكر الصديق (رض) وقد خرج إلى قتال المرتدين بنفسه، جاءه علي (ع) وأمسك بزمام فرسه قائلا: أقول لك يا خليفة رسول الله (ص) ما قال رسول الله يوم أحد: «لمَّ سيفك وأمتعنا بنفسك، فوالله لئن نكب المسلمون بك لن تقوم لهم قائمة من بعدك» بما معناه أنه يخاف على فرقة الصف الإسلامي لو جاهد أبوبكر وقتل في جهاده، والمسلمون في حاجة إلى وجوده، فعاد أبوبكر وكلف باللواء غيره.
وكذلك عندما أراد أبوبكر الصديق (رض) غزو بلاد الروم استشار علي بن أبي طالب، فقال له علي (ع): «أرى أنك مبارك الأمر مفوَّق منصور إن شاء الله» فسُرَّ لذلك أبوبكر الصديق واتبع رأي علي بن أبي طالب وجهز الجيوش وعقد الألوية ووجه القبائل إلى غزو بلاد الروم وانتصر بإذن الله.
وحينما أراد عمر بن الخطاب (رض) إبان خلافته أن يخرج بنفسه إلى بلاد الفرس استشار عليا (ع) فقال له: «كن القطب الثالث وأدِرْ رحى العرب من دونك، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخُصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أقطارها، حتى يكون ما تدعُ وراءك من العورات أهمُّ إليك مما بين يديك».
وان كتاب نهج البلاغة كتاب حافل بهذه المشورات الأخوية.
فحينما أُحدق بالخليفة الثالث عثمان بن عفان (رض) نجد الإمام علي(ع) يرسل ريحانتيه: الحسن والحسين (ع) ليحرسا عثمان بن عفان ضد أي خطر قد يتسرب إليه.
فقد كان زاهدا وحجة ومفكرا وعاقلا وصبورا، وله رضي الله عنه في الزهد عن الدنيا وعدم الإقبال عليها كثير من الأقوال والأفعال فمنها قوله عليه السلام شعرا:
ومن يصحب الدنيا يكن مثل قابضٍ
على الماءِ خانتهُ فروجُ الأصابعِ
وفي إحدى مآثره في البلاغة والفصاحة والحكمة أنه دخل عليه جابر بن عبدالله الأنصاري (رض) مجلسه يوما فقال له: يا جابر، قِوام الدنيا بأربعة: عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني جواد بمعروفه، وفقير لا يبيع دينه بدنيا غيره، فإذا كتم العلم لأهله وزهد الجاهل في تعلم ما لا بد منه، وبخل الغني بمعروفه، وباع الفقير آخرته بدنيا غيره، حلَّ البلاء وعظُم العقاب، يا جابر من كثرت حوائج الناس إليه فإن فعل ما يجب لله عليه عرّضها للدوام والبقاء، وإن قصَّر فيما يجب لله عليه عرَّضها للزوال والفناء، وأنشأ يقول:
ما أحسنَ الدنيا وإقبالها
إذا أطاعَ اللهَ من نالها
من لم يواسِ الناسَ من فضلِهِ
عرّضَ للإدبارِ إقبالها
فاحذرْ زوالَ الفضلِ يا جابر
واعط من دنياك من سالها
فإن ذا العرشِ جزيلُ العطا
يُضْعِفُ بالحبَّةِ أمثالها
يريدونها حربا على الإسلام ونريدها وحدة صف وقوة
هذه بعض مواقف الإمام علي وهي التي تجعلنا نطالب المسلمين بأن يتحلقوا حول هذا المعين، والله اننا لننهل من كأس حبه وإخلاصه في سبيل نصرة الإسلام وعزته، ولا نستطيع أن نعبّر عن حبنا له إلا باتباع خطواته وبالسير على النهج الذي سار عليه، فوحدة الأمة الإسلامية هي الأساس الذي تدور عليه أحكام الإسلام العلمية والعملية جميعا، وقداسة هذا المبدأ تتجلى في هذا العصر أكثر من أي عصرس مضى، ومن أهمية الوصول إلى هذا الهدف الأقدس اليوم: أن نجند كل الطاقات الإسلامية والعربية ونكثفها في وحدة واحدة ضد العدو الرأسمالي الكبير، فأعداؤنا لا يرهبون فينا قوة مادية، ولا كنوز الأرض ومدخراتها، ولا يرهبون فكرا اجتهاديا ولا ماضيا حضاريا أفل نجمه، ولكنهم يخافون حتى الموت من أن تلتقي هذه الأمة على نهج واحد ورأي واحد وقلب وهمٍّ واحد، كما التقت بالأمس
العدد 78 - الجمعة 22 نوفمبر 2002م الموافق 17 رمضان 1423هـ