يبدو أن محاولات إسدال الستار على حقبة تاريخية مظلمة أمر صعبٌ تحقيقه، وخصوصاً حين تكون بعض الأطراف شاهدة عليها، أو توافرت لديها قرائن عن المظالم والانتهاكات التي تم ارتكابها في تلك الحقبة.
الفيلم الوثائقي «مدينة كارل ماركس»، لكل من المخرج الأميركي مايكل تاكر، والألمانية المولد بيترا إبرلين، يضعنا أمام حقبة عاشها مواطنو الشطْر الشرقي من ألمانيا: جمهورية ألمانيا الديمقراطية، فترة ما كان يُعرف بـ «الحرب الباردة»، والممارسات الفظيعة لوكالة المخابرات السرية الألمانية في الشطر الشرقي، أو ما يُعرف بـ «ستازي»، التي دفعت مئات الآلاف من المواطنين الألمان الشرقيين إلى العمل كجواسيس ومخبرين؛ ما خلق مناخاً من المراقبة شبه الكاملة والبارانويا المتفشية. القصة هذه المرة من خلال انتحار شخصية (والد إبرلين)، التي تعتقد أنه دُفع دفعاً إلى الانتحار، أو تم قتله، بعد عشر سنوات من انهيار الشيوعية الألمانية الشرقية، مع تساؤلات: هل كان يعمل مع «ستازي»؟
أ. أو. سكوت، كتب تقريراً في صحيفة «نيويورك تايمز»، يوم الاثنين (3 أبريل/نيسان 2017)، قدَّم فيه رؤية لم تخلُ من عاطفيتها وجانبها الأخلاقي أيضاً. هنا أهم ما ورد في التقرير، ويتبعه تقرير آخر لتوم باورز، نُشر على موقع: www.tiff.net.
يُعدُّ الفيلم الوثائقي الجديد المُثير للقلق «مدينة كارل ماركس»، لكل من: المخرج الأميركي مايكل تاكر والألمانية المولد بيترا إبرلين، إضافة شخصية وذكية للغاية لمناهج متزايدة من الحكايات السياسية التحذيرية ذات الصلة بشكل مثير للقلق. أما المجلّدات التي تكتظ بها حالياً المكتبات، من قبيل، رواية جورج أورويل «1984» وعمل سنكلير لويس (1) «لا يمكن أن يحدث هنا»، علاوة على عمل حنة أردنت (2) «أصول الشمولية»، كل تلك الأعمال تقدّم نبوءات اختبار للزمن وتشريحاً للديكتاتورية. «مدينة كارل ماركس» تُكمل نظريات الأسماء آنفة الذكر، وكذلك التخمينات التي تنبثق عنها حقائق يومية مرتبطة بالحياة في الجنة المفترضة للعمّال في الجمهورية الديمقراطية الألمانية.
إبرلين... تاكر وأعمال مُميزة
نشأت إبرلين في كيمنتس، والتي أعيدت تسميتها من قبل حكّام ألمانيا الشرقية بعد مؤسس أيديولوجيتهم. (كيمنتس مدينة تقع في شرق ألمانيا بولاية ساكسونيا. خلال فترة انقسام الألمانيتين، كانت المدينة جزءاً من ألمانيا الشرقية. بين عامي 1953 و1990 كانت تسمّى مدينة كارل ماركس شتات). حزب الوحدة الاشتراكية في ألمانيا (كما عرف به الشيوعيون رسمياً) يصوّر كارل - ماركس - شْتات كنموذج للإنتاجية والازدهار، وقوة صناعية مكرّسة لسيادة البروليتاريا الشرقية.
بعد سقوط جدار برلين في العام 1989، شقّت إبرلين طريقها إلى الغرب. وقد قامت هي والمخرج الأميركي المولد، مايكل تاكر، بسلسلة من الأعمال المميزة والمثيرة للفكر، ومن بينها «غونر بالاس» وأنجز في العام 2005، وهو واحد من الأفلام الوثائقية الأولى عن حرب العراق، ولا يزال واحداً من أفضل الأعمال في هذا المجال.
في «مدينة كارل ماركس»، تخطو إبرلين أمام الكاميرا، وتعود إلى مسقط رأسها. تحفر في المنطقة الزمنية تلك؛ حيث تتقاطع العائلة والتاريخ الوطني. يرافقها سرد صوت من شخص ثالث - هي ليست «أنا» ولكن «هي» في قصتها الخاصة - حيث تقابل إبرلين والدتها وإخوتها ومؤرخين وموظفي أرشيف وأعضاء في جهاز ستازي والضحايا.
وتعني ستازي «أمن الدولة»، وهي خدمة أمن الدولة الرسمية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، الشهيرة بألمانيا الشرقية. توصف بأنها واحدة من أكثر وكالات المخابرات والشرطة السرية تأثيراً وقمعاً على الإطلاق. كان المقر الرئيسي لـ «ستازي» في برلين الشرقية، بالإضافة إلى مجمّع واسع النطاق في برلين - ليختنبرك، ومرافق أصغر متعددة في أنحاء المدينة. كان شعار الجهاز هو: «درع وسيف الحزب» الحاكم. حزب الوحدة الاشتراكية الألماني.
تحويل المواطنين إلى مُخبرين
من ضمن مهام الجهاز الرئيسية، التجسّس على الشعب، وخاصة من خلال شبكة واسعة من المواطنين الذين تم تحويلهم إلى مخبرين، ومحاربة أي معارضة بالتدابير السرية أو العلنية بما في ذلك التدمير النفسي الخفي للمنشقين. كما كان الجهاز يعمل كوكالة مخابرات خارجية.
لم يكن الأمر دائماً تمييزاً واضحاً؛ إذ نشرت دائرة أمن ستازي، مئات الآلاف من المواطنين الألمان الشرقيين كجواسيس ومخبرين؛ ما خلق مناخاً من المراقبة شبه الكاملة والبارانويا المتفشية. قام عملاء ستازي بجمع المعلومات من الزملاء والجيران بشكل روتيني، واقتحموا شققاً بحثاً عن أدلة تجرمهم. ما وجدوه عادة، وفقاً لأحد الضباط السابقين، كانت نسخاً يدوية من قائمة برامج تلفزيون ألمانيا الغربية، وحقائب تمت تعبأتها تحسّباً للسفر أو الاعتقال.
وتجري إبرلين تحقيقها مسلحة بميكروفون عملاق مغطى بالزغب ومزيّن بزوج من سماعات الرأس السوداء الثقيلة. تلك التجهيزات تبدو كوميدية بعض الشيء، فوجودها بقدر ما هو إعلان عن المبادئ الأخلاقية بقدر ما يمكن اعتبارها قبضاً على نكتة مرئية. التقطت ستازي صوراً وأجرت تسجيلات في السر؛ وكانت المراقبة غير مرئية.
يشار إلى أن «House of Card» أو «بيت من ورق» مسلسل دراما سياسي أميركي من تطوير وإنتاج بو ويليمون، مبني على مسلسل بريطاني بالاسم نفسه، والذي بدوره مبني على رواية من تأليف مايكل دوبز.
وبالإضافة إلى إلقاء الضوء على الأعمال الداخلية للإرهاب السياسي اليومي، فإن إبرلين تحاول تسليط الضوء على مأساة عائلية. في العام 1999، بعد عشر سنوات من انهيار الشيوعية الألمانية الشرقية، انتحر والد إبرلين. وبعد خمسة عشر عاماً من ذلك التاريخ، أجبرت ابنته الوحيدة نفسها على مواجهة احتمال فظيع، قد يكون تعاوناً مع ستازي، الأمر الذي فعله كثير من الناس.
إنه سر حياة والدها والموت. ذلك ما يتيحه فيلم «مدينة كارل ماركس» مع التشويق، وشعور ملموس من الجرعات الأخلاقية والعاطفية العميقة. فالأنظمة القمعية تتفوّق في عمليات خلق الغموض؛ ما يجعل التواطؤ أسهل من المقاومة، وطمس الخطوط بين الأبطال والأشرار. إبرلين وتاكر، يصوران أفلامهما بالأبيض والأسود، مع التوظيف الحكيم للقطات التاريخية، ويستحضران ببراعة المناظر الطبيعية للمناطق الرمادية. كما أنهما يكشفان عن ومضات من الأخلاق والولاء والتضامن - كما يكشفان عن التصدّعات الصغيرة في الصرح الشمولي التي تنبئ بانهياره في نهاية المطاف؛ حيث لا مفر من ذلك.
111 كيلومتراً من الملفات
من جانبه كتب توم باورز على موقع: www.tiff.net: بيترا إبرلين ومايكل تاكر في عملهما (غانر بالاس، السجين أو: كيف خططت لقتل توني بلير) يقوم برحلة شخصية قوية من خلال ألمانيا الشرقية السابقة، حيث تحقق إبرلين في انتحار والدها العام 1999 وإمكانية أن يكون قد عمل كجاسوس لوكالة الخدمة الأمنية (ستازي).
أصبح اجتياح خصوصيتنا على نطاق واسع، مع وجود الكاميرات الخفية، واختراق الهواتف، والرسائل المسرّبة للبريد الإلكتروني. ولعل هناك دروساً يمكن تعلّمها من المجتمع الأكثر مراقبة في التاريخ: الجمهورية الديمقراطية الألمانية. بحلول انهيارها في العام 1989، قامت الدولة بإرسال 92،000 ضابط واستخدمت 500،000 مخبر للإبلاغ عن مواطنيها على مدى العقود الأربعة الماضية. هذا الفيلم المذهل والشخصي للغاية من بترا إبرلين ومايكل تاكر، ينقلنا إلى الجمهورية الديمقراطية الألمانية فترة الحرب الباردة، عندما تآكلت القدرة على الثقة بجيرانها.
ووجدت نظرية شعبية في شرق ألمانيا مفادها، أنه إذا جلس ثلاثة أشخاص معاً، فسيكون أحدهم على الأقل مخبراً. هل يمكن أن يكون أحد هؤلاء المخبرين والد إبرلين؟ ولدت إبرلين في مدينة كارل ماركس (الآن كيمنتس). غادرت بعد سقوط الجدار، لكن بقية عائلتها بقيت في البلاد. وضع والدها حداً لحياته في العام 1999، تاركاً وراءه رسالة قصيرة. على امتداد مدينة كارل ماركس، نرى رحلة إبرلين عبْر جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة بحثاً عن أدلة حول ما إذا كان والدها قد دفع إلى الانتحار بسبب شعوره بالذنب لعمله في وزارة أمن الدولة. تقابل إبرلين العائلة والأصدقاء. تقوم بزيارة سجن «ستازي» ومحفوظات الجهاز مترامية الأطراف، التي تحتوي على 111 كيلومتراً من الملفات عن أكثر من 17 مليون شخص.
وتضم مدينة كارل ماركس، التي تحتوي على تسجيلات مراقبة فعلية ودعاية، لمحة عمّا كان عليه العيش في عالم هُزمت فيه الخصوصية في كل مكان. هذا التوليف الذي يقدمه الفيلم تقشعر له الأبدان من المذكرات والتاريخ، متحدثاً بشكل مباشر إلى عصرنا، حين تكون أسرارنا الأكثر حميمة أو صورنا المحرجة عرضة إلى أن تذهب إلى جهات كتلك في لحظة.
أكثر من ضوء
(1)- سنكلير لويس، أديب أميركي، ولد في 7 فبراير/شباط 1885، وتوفي في 10 يناير/كانون الثاني 1951، بسبب إدمانه على الشرب. درس في جامعة يال. حصل على جائزة نوبل في الأدب العام 1930.
(2)- ولدت حنة أرندت لعائلة علمانية من يهود ألمانيا في مدينة ليندن (وهي الآن جزء من هانوفر)، في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1906، ونشأت في كونسبرج وبرلين، وتوفيت في 4 ديسمبر/كانون الأول 1975. كانت منظرة سياسية وباحثة يهودية من أصل ألماني. على رغم أن كثيراً ما تم وصفها بالفيلسوفة، فإنها كانت دائماً ترفض هذه العلامة على أساس أن الفلسفة تتعاطى مع «الإنسان في صيغة المفرد». وبدلاً عن ذلك وصفت نفسها بالمنظّرة السياسية لأن عملها يركّز على كون «البشر، لا الإنسان الفرد، يعيشون على الأرض ويسكنون العالم».
قال عنها إرنست غيلنر إن «حياة هذه الناقدة اللاذعة تجسد أيضاً جملة الحياة الفكرية والسياسية في عدة قرون أوروبية». انتظمت في دراستها بالجامعة حيث درست الفلسفة في جامعة ماربورغ مع مارتن هايدغر، والذي دخلت معه في علاقة طويلة، رومانسية وعاصفة، والتي كانت قد انتقدت في وقت لاحق بسببها أثر دعم هايدغر للحزب النازي بينما كان يشغل منصب عميد جامعة فرايبورغ. وصول النازيين وأيديولوجيتهم الشمولية إلى الحكم في ألمانيا في العام 1933 شكّل نقطة تحول مركزية في حياة أرندت دفعها إلى الابتعاد عن الفلسفة بمفهومها النظري، البحت والتوجّه إلى العمل السياسي بشكل عملي. وفي صيف العام 1933 اعتقلتها المخابرات النازية، ثم أطلقت سراحها فيما بعد.
ترى أرندت أنه غالباً ما تسعى «الحركات الشمولية إلى تنظيم الجماهير وتفلح في ذلك» لكنها تتساءل «كيف ظهرت هذه الجماهير وكيف أصبحت كذلك»؟ وتجيب «إن عبارة (الجماهير) تنطبق على الناس، الذين عجزوا، لسبب أعدادهم المحضة، أو لسبب اللامبالاة، أو للسببين المذكورين معاً عن الانخراط في أي من التنظيمات القائمة على الصالح المشترك ـ أكانت أحزابا سياسية، أم مجالس بلدية، أو تنظيمات مهنية أو نقابية. توجد الجماهير، وجوداً بالقوة، في كل البلدان، وتشكل غالبية الشرائح العريضة من الناس الحياديين واللامبالين سياسياً، والذين نادراً ما يصوتون ولا ينتسبون إلى أي حزب».