العدد 77 - الخميس 21 نوفمبر 2002م الموافق 16 رمضان 1423هـ

الإسلاميون السجناء في تونس بين الرجاء والصرامة

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

في مناسبة الذكرى الخامسة عشرة لتسلم الرئيس زين العابدين بن علي السلطة، اطلق سراح ستة معتقلين سياسيين، من بينهم عضوان في «الحزب الشيوعي العمالي التونسي»، والبقية تنتمي إلى حركة النهضة المحظورة. وبناء عليه يمكن القول إن السجون التونسية خلت من سجناء الرأي من ذوي الاتجاهات اليسارية او الليبرالية او القومية ولم يبق سوى المعتقلين الاسلاميين الذين حكم عليهم في قضايا يعود تاريخ معظمها الى مطلع التسعينات. حيث رحّبت منظمات حقوق الانسان بهذا الاجراء السياسي، الا انها اعتبرت ذلك خطوة لا تكتمل أهميتها الا بإطلاق سراح بقية السجناء الذين يعدون بالمئات. فما هي قصة هؤلاء؟ وهل هناك في الافق ما يدل على احتمال الافراج عنهم في وقت منظور؟

المرة الاولى التي دخلت فيها المعتقلات التونسية من سجناء الرأي كانت خلال العام 1988، عندما أفرج الرئيس بن علي عن آخر دفعة مما كان يسمى بـ «المجموعة الأمنية». كان ذلك من أخطر الملفات وأدقها التي واجهت القيادة السياسية الجديدة بعد التأييد الجماهيري الذي تلقته والمساندة الواسعة التي حظيت بها من قبل النخبة ومعظم التنظيمات السياسية بما فيها الشيخ راشد الغنوشي الذي بارك انتقال السلطة بقولة: «لنا في الله وفي الرئيس بن علي ثقة كبيرة».

هذه المجموعة كانت تتشكل في معظمها من ضباط برتب مختلفة، وكانت تربطهم بحركة النهضة صلات متعددة. وذكروا اثناء التحقيق معهم انهم بعد ان بلغ الصراع بين الحركة والنظام أقصاه وانتهى الى افق مسدود حين طالب الرئيس الحبيب بورقيبة بإعدام الغنوشي، لم يجدوا امامهم سوى العمل من اجل الإطاحة برأس النظام. وفعلا وضعوا خطة للقيام بانقلاب عسكري يكون مدعوما بتحرك مدني اشبه بالعصيان او التمرد الشعبي. وحددا لذلك تاريخا هو الثامن من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1987 عندما يكون الرئيس بورقيبة منشغلا بمراسم الاحتفال بعيد الشجرة. لكنهم فوجئوا بما حصل من تغيير قبل شروعهم في تنفيذ خطتهم بـ 24 ساعة فقط. عندما قرروا بشكل تلقائي إلغاء الخطة وتأييد التحرك الذي حصل من دون إراقة الدماء، او ادخال البلاد في فوضى لا تحمد عقابها. على رغم ذلك اكتشف أمرهم لاحقا وهو ما شكل صدمة قوية للرئيس بن علي، واذهل الطبقة السياسية التي اكتشفت للمرة الاولى قدرة الحركة الاسلامية على تحقيق اختراق واسع لقطاعات الجيش والأمن والجمارك.

مع ذلك جاء قرار العفو عن عناصر المجموعة متناسقا مع مقتضيات الوضع السياسي الجديد الذي كان واعدا ومتجها نحو تحقيق المصالحة الوطنية. كما توجت عملية غلق ملف المجموعة الامنية سلسلة من الاتصالات التي جرت بشكل مباشر او عن طريق وسطاء وكانت تهدف الى بناء الثقة بين حركة النهضة والسلطة.

هدنة مؤقتة وملف ثقيل

سرعان ما توترت العلاقة بين الطرفين من جديد بعد سلسلة من التراكمات والحسابات الخاطئة. ثم تحول التوتر الى مواجهة لجأ كل منهما الى استفادة كل الوسائل التي في حوزته. ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى قدّرت منظمة العفو الدولية عددا من المعتقلين من أنصار الحركة وكوادرها بثمانية آلاف. وهو رقم ضخم لم تعرف السجون التونسية له مثيلا الا خلال الصراع الدموي الذي نشب بين الدستوريين طيلة السنوات الاولى من الاستقلال عندما نجح الجناح البورقيبي في القضاء على صالح بن يوسف وأنصاره.

مع مرور السنوات قضت الغالبية الساحقة من المساجين العقوبة، كما تم العفو على بعضهم لينخفض العدد حاليا الى حدود الألف، بحسب مصادر «أمنستي» وهم محكوم على معظمهم بـ 12 سنة وما فوق. وتذكر تقارير وبيانات الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والمجلس الوطني للحريات ان منهم من اصبح يعاني من امراض مزمنة وخطيرة. وهو ما جعل الطبقة السياسية المحلية تكاد تجمع على ضرورة اصدار عفو تشريعي عام يكون مدخلا لتحقيق مصالحة جديدة. فلعلها المرة الاولى التي يقضي فيها معتقلون حوكموا في قضايا ذات طابع سياسي كل هذه السنوات اذ جرت تقاليد سابقة بان تعيد السلطة ترتيب البيت الداخلي في دورات لا تتجاوزالخمس او الست وتختفظ في الآن بخيوط المبادرة وبموازين القوى لصالحها.

الملف والمأزق المشترك

الأكيد ان الموقف الرسمي لا يزال يعتبر حركة النهضة عدوا سياسيا خطيرا يهدد استقرار النظام والبلاد. لهذا دعا الرئيس بن علي من جديد في خطابه الاخير الحكومات الغربية الى «إعادة النظر في التعامل مع الارهاب وجماعاته»، اذ سبق للسلطات التونسية بان طالبت بتسليمها عددا من اللاجئين السياسيين المقيمين في بريطانيا وفرنسا وغيرها من البلدان. وهو ما لم تستجب له هذه الحكومات التي كثفت في المقابل مستويات تنسيقها مع الجهات الامنية التونسية، خصوصا بعد اعتقال عدد من التونسيين المتهمين بكونهم على صلة بتنظيم القاعدة من دون ان تثبت ان لهم صلة ايضا بحركة النهضة، كان آخرهم عناصر يجري التحقيق معها في فرنسا بتهمة المشاركة في الاعداد لعملية جربة التي ارتكبت في 11 ابريل/ نيسان الماي.

يأتي ملف المساجين الإسلاميين في مقدمة المسائل التي تشغل منظمات حقوق الإنسان وتدفعها الى تكثيف الضغوط على السلطات التونسية. وهو ما دفع بالرئيس بن علي الى القول إنه «اذ نحيي بكل اكبار مناضلي حقوق الانسان الترهاء، نعتبر ان الانحراف عن قيم حقوق الإنسان النبيلة بترديد مزاعم المتطرفين وأكاذيبهم يزيد في استفحال اخطار التطرف والارهاب».

وفي المقابل تتصدر مسألة المساجين أولويات قيادة حركة النهضة المنتصبة في اوروبا، وتؤرقها وتهدد شرعيتها وتثير القلق في صفوف انصارها بسبب العجز الفادح عن حل هذه المعضلة. فالحركة مشلولة في الداخل وتبحث في الخارج منذ سنوات عن طريقة للتأثير فلم تنجح الا في الحفاظ على حد أدنى من وجودها. من هنا ثمنت الحركة قرار اطلاق سراح اربعة من مساجينها، وتخفيف الاحكام على عدد آخر من المعتقلين من بينهم القيادي السابق المعروف حمادي الجبالي.

وعلى رغم ان هذا الملف (ذو حدين) فان السلطة تتعامل معه بكثير من الحذر وعدم التسرع. فهو ورقة اساسية ضمن ادوات احكام القبضة على ظاهرة الإسلام السياسي، ولكن مع دخول السنة الجديدة التي تعتبر حاسمة في الاستعداد للانتخابات الرئاسية التي ستجرى خلال سنة 2004، فقد يتوسع النظام قليلا في اطلاق سراح آخر مساجينه السياسيين، تمهيدا منه لمرحلة جديدة لا تزال ملامحها التفصيلية غير واضحة

العدد 77 - الخميس 21 نوفمبر 2002م الموافق 16 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً