تعيش «إسرائيل» أجواء انتخابات مفتوحة على كل الاحتمالات. إلا أن الاحتمال الأقوى هو المزايدة على التطرف وإنتاج وإعادة إنتاج المزيد من العنصرية وسياسات التفرقة.
لم تطرح مسألة «الهوية» من قبل بهذه الحدة كما هي مطروحة في مهرجانات الانتخابات التي بدأت الأسبوع الماضي على مستوى اختيار القيادات الحزبية واللوائح الحزبية وستنتهي في فبراير/ شباط المقبل على مستوى الكنيست والدولة. الأحزاب كلها من يمينها إلى يسارها محكومة كلها بهاجس «الهوية» وإعادة تعريف الدولة العبرية.
سابقا كانت مسألة «الهوية» موجودة في برامج الأحزاب العنصرية المتطرفة.
الأحزاب الكبيرة، حزب العمل مثلا وهو الحزب المؤسس للدولة، أعطت مسألة «الهوية» أهميتها إلا أنها لم تكن على رأس أولوية برنامجها الانتخابي. اعتمدت تلك الأحزاب القائدة للدولة البرامج الاجتماعية ـ الاقتصادية كأساس للتنافس إلا أنها أدرجتها في سياق تأكيد ضرورة تثبيت الأمن وبناء الدرع الواقية من مخاطر الحروب مع الدول العربية.
الآن تبدو «الهوية» مسألة أساسية في مختلف الأحزاب الكبيرة والصغيرة، العنصرية والمتطرفة، والأقل عنصرية وتطرفا. حتى البرامج الاجتماعية وتوزيع الموازنة والحصص والمساعدات وغيرها من شئون وقطاعات بدأت الأحزاب تعيد النظر في نسبها وفق تراتب «الهوية» وليس الحاجات والضرورات. والخلاف الذي وقع بين الائتلاف الحكومي عند التصويت على توزيع موازنة 2003 تم بناء على انقسام في الرؤية السياسية وقراءة مختلفة للعناصر (الهويات) التي تتركب منها الدولة.
ظاهر الخلاف كان البرنامج الاجتماعي، أما واقع الاختلاف فقد انصب على مسألة تناثر الجماعات وترتيب حقوقها وفق الأقدمية. حزب العمل يريد المزيد لمصلحة المستوطنين القدامى وتكتل الليكود يريدها لمصلحة المستوطنين الجدد.
حتى الانقسام الذي استجد في صفوف حزب العمل بعد خروجه من الائتلاف الحكومي مع تكتل الليكود ارتسمت خطوطه على انشقاقات «الهوية» وليس السياسة. فجناح الوسط يريد الحد من تبعية قيادة الحزب لبرنامج الليكود العنصري المتطرف، وجناح اليمين (بنيامين اليعازر) يريد استلهام برنامج ارييل شارون واتخاذه كأساس للمنافسة مع الليكود، وجناح اليسار الذي يقوده الثنائي (بورغ ـ بيلين) يريد إعادة ترتيب وضع الحزب في سياق له صلة بزمنه وبالماضي انطلاقا من التحالف مع حزب «ميريتس» اليساري.
الجناح الأقوى (الوسط) يريد الاستقلال بنفسه، والأول (اليمين) يريد التحالف أو الالتحاق بالليكود، والثاني (اليسار) يريد التعاون مع ميريتس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. والنتيجة أن حزب العمل بات على شفير التفكك والانهيار في وقت يجدد تكتل الليكود تماسكه على برنامج شارون مستبعدا نتنياهو من المنافسة الحزبية. ومجموع كل هذا الحراك الحزبي ـ الانتخابي يشير، كما تدل كل الاستطلاعات، إلى احتمال فوز (مؤكد) لتكتل الليكود بغالبية مريحة في انتخابات الكنيست المقبلة.
احتلت مسألة الهوية مكانة مميزة في برامج الأحزاب الإسرائيلية، وهي ليست نقطة جديدة بقدر ما هي تشير إلى وجود تحولات بنيوية في تركيبة الدولة أحدثتها الهجرات اليهودية الأخيرة في العقدين الأخيرين. فتلك الموجات حملت معها هواجس القلق الموروث عن الحقبة السوفياتية ـ الاشتراكية ومعها الكثير من الأحقاد المكبوتة التي تفجرت بعد خروج تلك المجموعات من «المعسكر الشرقي» إلى دولة تقوم أيديولوجيتها كالدول الاشتراكية على نص أو وعد.
هذه الموجات أحدثت انقلابا، وكما يبدو من هواجس الأحزاب، في مزاج الدولة العبرية. ففي الثمانينات كان الميل عند الأحزاب إلى التسوية والمصالحة من موقع القوة، أما الآن فإن الميل يتجه نحو الانكفاء والعودة إلى نظرية «القلعة» والانتصار من طريق القوة على دول الجوار.
هذا الميل نحو العنف ضد المحيط المجاور انعكس، وبالضرورة، على علاقات الداخل فاندفعت الأحزاب الإسرائيلية إلى التنافس على مسألة الهوية من جهة وإقامة «السور الواقي» كرمز للتفرقة العنصرية ضد الآخر الفلسطيني.
هاجس الهوية انتقل إلى رأس اهتمامات الأحزاب الصهيونية وتنافسها على المقاعد، حاملا معه فكرة «السور» الأمني من برلين إلى القدس
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 77 - الخميس 21 نوفمبر 2002م الموافق 16 رمضان 1423هـ