إن التاريخ لا يقف، ولعبة الأدوار المتحركة أفقياً وعمودياً لا تهدأ، وهي دورة طبيعة لما يعرف بعودة النخب في كل حقبة تاريخية، فهناك كم هائل من تلك النخب تحاكيه سجلات الماضي محفورة في الذاكرة الإنسانية، وما تمارسه في توجيه الحياة الاجتماعية في مختلف مساراتها وأشكالها، فالنخب هي من تصنع التاريخ الإنساني، وتحرك جماهيره فكراً وسلوكاً، وهي من ترسم ملامح التغير، وهي التي تبقى حاضرة وفاعلة في كل مشهد، لتمارس دورها الريادي في المجتمعات البشرية المختلفة في كل زمان ومكان. النخب عادة تمتلك من القوة المادية والمعنوية التي أفصح عنها سي رايت ميلز في كتابه نخبة السلطة بأنها العلاقة الصميمية بين النخبة ومختلف أشكال القوة في السياسة والاقتصاد والعسكرة.
النخبة تعني الأشخاص الأكثر قدرة من غيرهم، وهم يمثلون شريحة منتقاة من المجتمع أو ما يعرف بالصفوة، وفي اللغة العربية جاءت بمعنى المختار وفقاً إلى ما يشير إليه ابن منظور في لسان العرب، أن كلمة نخبة مصدرها الفعل انتخب، وانتخب الشيء، أي اختاره، ونخبـة القـوم: خيارهم، وفي معجم المصطلحات السياسية والدولية يشير إلى النخبة هي: «عُلية القوم، وهم أقلية ذات نفوذ تحكم الغالبية، وتلعب هذه الصفوة دوراً قيادياً، وسياسياً لإدارة جماعاتهم من خلال الاعتراف التلقائي بهم بصفتهم».
وقد عرف العرب مفهوم النخبة، إذ ظهر في تراثهم الأدبي بمسميات عدة منها عليّة القوم، والسادة والأعيان، هذا الأمر دفع بالكثير من الباحثين العرب للدعوة إلى تأصيل مفهوم النخبة واستخدام مفهوم «السراة» بديلاً عنه، وفقاً لقصيدة الشاعر الجاهلي صلاة بن عمرو بن مالك والملقب بالأفوه الأودي إذ يقول: لا يَصلح الناس فوضى لا سَراةَ لهم....
إن مفهوم النخبة غير ثابت ومحكوم بفكر الزمن والمكان، الفكر الماركسي أطلق على النخب مصطلح الطليعة، وعرفت عند الأحزاب الديمقراطية المسيحية بالمثقفين، وفي الفكر الإسلامي جاءت بمنطلق الدعاة الذين وصفهم الإمام البنا «النخبة المؤمنة الملتزمة بالإسلام نظاماً وإماماً وديناً ودولة». علماء الاجتماع والمهتمون بصيرورة النخبة يرونها تندرج تحت مسلكين أولهما النخبة المعطاة طبيعياً، وهي التي تنتقل بمقتضاها المغانم المادية والرمزية بين السلالة الواحدة، أي وراثية كأسرة الحكام والتجار والأسر الدينية والعسكرية، وهناك النخبة الكفؤة والتي أدخلت إلى عالم الصفوة بفضل جهدها وقدرتها وتميزها وإخلاصها المتفاني.
بعد كل تغير وحركات إصلاحية تتحمل النخب مسئوليتها التاريخية في دفع عجلة التقدم الفكري والاقتصادي والسياسي في أي بلد، باعتبارها ملتزمة برسالة الإصلاح، وفي كل طارئ أو أزمة تتوجه أنظار شعوبها إلى نخبها لإنقاذها مما هي عليه وما سيحل بها، لأنها الوحيدة القادرة على صنع القرارات وتعديل سلوك، وبث الأفكار التي تلقى صدى كبيراً، وهي الوحيدة التي تتحمل مسئولية وأعباء مصير جماعاتها، ومن الغبن لمجتمع ما أن يقصي مساحة نخبه في التفكير، وإبداء الرأي ويبذل جهده في اختزال النخب إلى نخبة واحدة بنفس المنهج والتفكير والرأي. وهذا بحد ذاته انهيار وانتحار، فالمفكر الفرنسي ريمون آرون في كتابه المعروف «مراحل التفكير السوسيولوجي» يرى ضرورة وجود مجموعة من النخب المختلفة في المجتمع الواحد بقوله «أن وجود نخبة واحدة موحّدة يعني نهاية الحرية» ويوافقه عالم الاجتماع روبرت دال إذ يرى أن المجتمعات التي تقوم على نخبة واحدة تحقق المعادلة الصفرية، إذ تعطى نخبة واحدة كل مساحات التحرك والقوة في حين تحرم بقية القوى منها. فالنخب لا تصفى ولا تقصى ولا تبعد عن ساحة العمل لأنها سراج الأمة وأملها.
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 5327 - الجمعة 07 أبريل 2017م الموافق 10 رجب 1438هـ
لكن ما تتكلمين عنه هو تتعامل به المعارضة أيضا مع غير السلطة او غير الموالاة و بعض الناس من الفئات المغضوب عليها تقول أن هذا الوضع أسلم من وضع تمكين المعارضة ربما. و الحمد لله الكريم الذي جعل الرزق بيده لا بيد عبيده.