في الإصدار الذي حمل «يوم طار شلّ السّمر كله... تحية حب عُمانية لأحمد راشد ثاني»، الصادر عن دار سؤال، العام 2014م، وبـ «مبادرة القراءة نور وبصيرة»، يكتب الشاعر والقاص والسينمائي عبدالله حبيب، الصديق الذي كان أكثر سطوة وفهماً وقراءة لفوضوية ثاني، وبوهيميته، وسخريته من نفسه والعالم، وعبقريته أيضاً، في كلمته التأبينية التي نشرت بمناسبة أربعينية الراحل، والتي حملت عنوان «أنت ماء مجفف... محاولة نخلة أو موجة على قبر أحمد راشد ثاني»، وشارك بها في فعالية الجمعية العُمانية للكتَّاب والأدباء بالنادي الثقافي في مسقط يوم الثلثاء (3 أبريل/ نيسان 2012): «في حياتي الصغيرة لم أعرف من هو أكثر شغفاً بالقراءة من أحمد، وكم تشرّفت بصداقة أكبر لص كتب في العالم. فقط لو أعدتَ لي نصف الكتب التي سرقتَها مني في الكويت لكنتُ قد حاولت البدء في قراءتك».
أحمد راشد ثاني، شاعر وكاتب مسرحي وباحث في التراث الإماراتي، رحل عن العالم في 20 فبراير/شباط 2012، بعد معاناة مع المرض. كان رقماً صعباً، ولا يمكن لأي قارئ أو باحث في المشهد الإبداعي الإماراتي أن يتجاوزه، كونه مختلفاً في النص والحياة أيضاً. بدأ الحياة بمعاناة وجرأة، ولم يقل النص معاناة وجرأة يوم تورّط في كتابته.
في هذه الكتابة... سيرة الغائب ربما يجوز أن تُسمّى، لا نملك إلا أن نكون على متاخمة مع الكلام الذي لم يقله كثيرون، يوم أن كان ثاني حياً بيننا، يتنفس ويمشي في الأسواق ويتهكّم على الحياة وبعض مواقف البشر، وحين لا يجد كل ذلك يتفرّغ للتهكّم على نفسه.
يحاور الأصدقاء الذي كانوا على مقربة حقيقية منه. والأصدقاء الذين وصلتهم أنباء المفارقات التي يطلع بها على الناس، وأصدقاء اليوم الواحد، وأصدقاء الحرف والحبر، وأحياناً الدهر!
نصوص الوفاء
لا نجد أقرب من هذا المعنى في تكريم العزاء، أو عزاء التكريم. معنى الوفاء من خلال «نصوص الوفاء» وإن أتى في لوعة تأبين، إلا أن أصدقاء أحمد راشد ثاني كانت لهم طريقتهم الخاصة في استكشاف صديق لا أجد مبالغة في التقريب من وصفه بالقول: إن الرجل في حياته، ورغم جسده النحيل، ظل بمثابة قارة، من الصعب عليك أن تلمَّ بسطحها عدا عمقها!
«نصوص وفاء»، مجموعة من أصدقاء الراحل لابد من التعاطي معها اليوم باعتبارها رؤية أخرى على العالم. هذه المرة عالم البشر. الكلام الذي أجّلوه. البشر الذين أجَّلوا العداوات مع آخرين. البشر الذين ظلوا في حال من النهم لتكريس الأصدقاء حتى في أشد حالات التوتر والقلق والاستعداد للعداوات. كما أنه لابد من التعاطي معها باعتبارها استشرافاً لما يمكن أن تؤول إليه أمور أولئك الذين مازالوا على قيد الحياة، وسيكونون في عداد الأموات ذات غفلة أو دراية.
ثاني الذي شكّل علامة ثقافية وإبداعية في الإمارات ومنطقة الخليج العربي، ظل هو الآخر وفياً لأصدقائه ونصه، وإن كان وفاء لا يخلو من السخرية والكيد البريء. عاش حياته طولاً بعرض، لكنه لم يستهن قط بالأثر. الأثر الذي يمكن أن يتركه أي منا، ولو في محاولة ضئيلة في تحسين وضع القبح. تمرير جمالية ما وسط هذا الكون المزدحم بالقبح.
ظل طوال سنوات من الهجرة الداخلية، انتقالاً من خورفكان، وصولاً إلى العاصمة (أبوظبي)، ملتصقاً بتفاصيل المكان الأول... أمه التي لم تسلم هي الأخرى من نظره الحاد والمفجع. ربما تقدّم لنا كتابة الشاعر العماني عبد يغوث التي جاءت تحت عنوان «وداع الأم والابن والروح المرحة»، وهو يتناول اللقاء الأخير الذي جمعه بثاني، جانباً من ذلك النظر «كان عند سرير أمه في المستشفى، الجو مشبع برائحة الموت والأدوية، وأوردة أجهزة المستشفى الأشبه بأوردة الحياة الذابلة، وصوت عبدالباسط عبدالصمد، كانت الأم في غيبوبة، وفي مفارقة مضحكة طلب مني أن أترجم له ما قاله الطبيب عن وضعها الصحي غير المطمئن، لكني طمأنته بما فهمته من الطبيب فنظر إليَّ تلك النظرة وكأنه يقول لي: تحسبني ما أعرف انجليزي. ثم أردف ونحن نودّعها: تراها كبرت وايد يحليلها. قبّلناها على رأسها وخرجنا (...)».
عن الهذيان
عن الهذيان يكتب حبيب. الهذيان الذي لم يكفِ أحمد راشد ثاني، ذلك أن المنطق نفسه كان مصاباً باللاجدوى... اللامعنى... اللاقيمة في كثير من الأحيان. بتلك المقاربة الشاعرية الحادَّة في فضاءاتها القصوى. بذلك الاقتراب الشفَّاف من الروح التي ظل حبيب على مقربة منها، قبل أن يكون على مقربة من النص. نص احتشدت فيه الجبال والصحراء وأمكنة اللهو، والسفر بحثاً عن ضجر جديد أو فسحة نفس جديدة.
«... يا هذيان لا يكفيك الهذيان، فقد مات أحمد. يا مسامير لا تكفيك الخاصرة، فقد مات أحمد. يا هواء احترق في رئة البدء، فقد مات أحمد».
وعن زيارة جمعته والراحل إلى القاهرة معية الشاعر علي المغنِّي، يكتب فيما يكتب حبيب: «أتذكَّر ما حدث في حوالي الثالثة من صباح إحدى ليالينا في القاهرة حين فاجأنا علي المغنِّي بسلسلة فادحة من المطالب الشعرية الباهظة؟ المطلب الأول: لحفوني بماي بارد! هذا المطلب أمكن الاحتيال عليه بما في الثلاجة من شِعْر، وما في القهقهات من تضامن، وما في المخيلة من آبار، وما في القلب من دم ساخن، وما في الصحراء والجبال من صبر».
مثل تلك المفارقات التي تحدث في ظل نصف صحوة... نصف حضور، يتجلّى منها أحياناً الحضور كله. تكاد تلفظ أنفاسك وأنت تضحك حد تهشم ضلوعك لفرط مفارقة الجنون، أو جنون المفارقة... لا فرق.
«لكن المطلب الثاني كان أكثر عسراً: أبا (أريد) الطيّارة تدش من الباب وتجيني لين هنيه وتطير بي! قلنا لعلي إن هناك بعض الصعوبة في إقناع الطيارة بالدخول عبر باب الشقة، فردّ ببراءة شاهقة: انزين (حسناً) عادي! إذا ما بتدخل من الباب، خلّوها تدش من الدريشة يا أخي.. شو المشكلة يعني؟! جاء دورنا الليلة. يا أحمد، (لحّفناك بماي بارد)، ويا أحمد، طارت بك (الطيارة)، طارت».
الاتصال بعد الموت
ليست الصدمة وحدها هي التي دفعت عبدالله حبيب إلى الاتصال به في اليوم التالي على هاتفه النقَّال. هو متيقّن أن غياب وموت أحمد راشد ثاني لا يعدو كونه واحداً من مقالبه التي اشتهر بها في يومياته. حتى الموت يمكن أن يدخل في تركَة مقالبه التي لم يتخلَ عنها.
«في الليلة الثانية من رحيلك اتصلت بك كي أعرف منك يقيناً كيف هي الأمور بالضبط في العالم الآخر. جاءني صوت مسجَّل يقول: الهاتف المتحرك الذي طلبته مغلق. يرجى الاتصال لاحقاً».
مثل تلك التفاصيل التي يلتقطها الشاعر والسينمائي عبدالله حبيب هي في اللب من السيرة غير المكتوبة... النصوص التي لم يُقدَّر لها أن ترى النور. هي جزء من ملامح صاحبها النحيل... المتين بالنص وشره الكتابة، ومن قبلها القراءة.
عن عاداته وطقوسه في القراءة. أو بعد أن ينهي قراءة كتاب ما، يكتب حبيب: «وشهدت أيضاً، ومنذ بدايات تعارفنا، واحدة من أغرب العادات القرائية؛ فقد كنت تطفئ أعقاب سجائرك على أغلفة الكتب التي تقرأ. كان ذلك تنبّؤاً بالنار التي ألمَّت بجزء من مكتبتك قبل شهور، وكان ذلك الحريق تنبّؤاً بالاحتراق الوشيك لقلبك وكبدك معاً».
يحتل الكتاب مساحة كبرى من كتابة حبيب. الكتاب الذي مثل لثاني نافذته الوفية والحقيقية على العالم. تلك النافذة التي منحته حصانة من الاغتراب في العالم. ألَّا تقرأ فأنت طارئ على هذا الكوكب أساساً، وليس على المكان الذي تنتمي إليه فحسب.
«يا من لم يكن ميتافيزيقياً جداً تقريباً هذا ما حدث يا أحمد، وتقريباً هذا ما لم يحدث؛ فحين أسقطك قلبك إلى العدم كنت تمشي في غرفة المكتبة في البيت حاملاً بين يديك كتابين. كانت صفحة واحدة من روحك لتكفي كي تبدأ أو أبدأ سرد الموت يا أحمد».
في الشقاوة
لم تكن الشقاوة في وجه من وجوهها أيضاً إلا التعبير عن تحفّظ ما. ربما عن الهيئة، طبيعة الحركة في الحياة... الوجوه... النصوص التي نكتبها، وفي كثير من الأحيان تكتبنا. التهكم هو الإضافة النوعية لما هو قائم وماثل في الحياة. محاولة ترتيب الفوضى، كل من زاويته.
يكتب حبيب عن هذا الجانب الثري والمتجدد، والذي يكاد لا يخلو يوم منه. بعضهم يسميها الشقاوة، لكن تلك الشقاوة لا تعدو كونها تهكُّماً في أدق وأعمق تجلياته... يقتنص أي مقلب يتعرّض له في حياته. قراءة الإنتاج الرديء يعد أصل المقالب بالنسبة إلى مثقف احترف شراء الكتب بما توافر له من مال، واحترف استعارة الكتب التي لن تعود إلى أصحابها. يكتب: «عن شقاوته فحدّث ولا حرج (للأمانة، ببعض الحرج في بعض الحالات). ذات منتبذ كنتَ تتصفح مجموعة رديئة. وحين ضاق ذرعه بها اخترتَ بنظرة سريعة أقل المرتادات جمالاً، وقد عرفنا أنها عربية بسبب صوتها العالي الذي كان يصم أذني طاولتنا في حديثها مع نديمتها، ذهبتَ إليها ووضعتَ المجموعة الشعرية على طاولتها، وقال: هذي أهم مجموعة شعرية صدرت في العالم لين تو هدية مني لك! ثم تركتَ طاولتها التي انكسرت أقدامها لفرط الذهول، وعاد إلى طاولتنا، حيث: كاع كاع كاع كاع كاع».
من بين الشقاوة تلك... التهكّم... السخرية البريئة، المشاجرة... أو التنابز كما أسماه الكاتب العماني خميس قلم، ما يرويه خميس نفسه «تشاجرنا مرة، كعادته مع من يُحب، يتشاجر معهم ليلاً ليعمّق مودته فيهم صباحاً، لم نتشاجر تماماً بل تنابزنا بالألقاب فقط، ففي إحدى الليلات، كان يتعمّد ممازحتي بمناداتي بكل أسماء الأدوات المدرسية والهندسية: خميس دفتر، برّاية، مسّاحة، مسطرة... حتى طفح كيل صبري، فصحت في وجهه: يا أحمد راشد ثاني، حين تترقّى شعرياً ستصبح أحمد راشد أول. ضحك من حضر، وهو وجَم. مشيّداً جداراً من حجارة الصمت بيني وبينه، وفي الصباح أعدنا معاً الحجارة إلى وديانها».
الكتاب الذي احتوى على سيرة ذاتية موجزة، تضمّن «من قبيل التقديم» كتبها حبيب عبدالله وسعيد سلطان الهاشمي، «المريض بالكتابة والقلب»، لخالد البدور، والذي ساهم أيضاً بـ «صار لديك ما يكفي (إلى أحمد راشد ثاني)»، «عن أحمد راشد ثاني، مشاهد من الذاكرة»، لخميس قلم، «كما لو كنت نائماً وأنت تحلم بالرمل والحصاة وعشبة البحر»، زاهر الغافري، «موجة أحمد راشد الأخيرة»، لسماء عيسى، «أحمد راشد ثاني: مجازي الغياب... خنيزي الحضور»، لسعيد سلطان الهاشمي، «الصارخ في بئر المعنى (عن أحمد راشد ثاني في أسبوعه الأرضي الأول)»، لصالح العامري، «وداع الأم والابن والروح المرحة»، عبد يغوث، «لقاء افتراضي مع أحمد راشد ثاني»، لفاطمة الشيدي، و «أمام معلقات أحمد راشد ثاني»، لمحمد الحارثي.
ضوء
يذكر، أن من بين أعمال الراحل: «سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه (مجموعته الشعرية الأولى)، «يالماكل خنيزي، ويالخارف ذهب» (كتيب شعري باللهجة المحلية، 1981)، «دم الشمعة» (مجموعة شعرية، 1991)، «يأتي الليل ويأخذني»، (مجموعة شعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت)، «وهنا اللذة» (مجموعة شعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت)، «ها يداي فارغتان» (مجموعة شعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت)، «الغيوم في البيت» (مجموعة شعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، «جلوس الصباح على البحر» (مجموعة شعرية، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الشارقة) «الفراشة ماء مجفف» (مجموعته الشعرية الأخيرة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت).
وفي الحكايات الشعبية: «حصاة الصبر» (حكايات من الإمارات، 2002): أول كتاب له في الحكايات الشعبية، واحتوى على 15 حكاية، «دردميس» (حكايات من الإمارات، المجمع الثقافي، أبوظبي، 2003): واحتوى على 8 حكايات، «إلا جمل حمدان في الظل بارك»، (حكايات من الإمارات، المجمع الثقافي، أبوظبي، 2004): واحتوى على 24 حكاية.
ومن بين المؤلفات الأخرى التي تراوحت بين المسرح وأدب الرحلات والبحوث وغيرها: «على الباب موجة» (هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، المجمع الثقافي، أبوظبي)، «الأرض بتتكلم أوردو» (مسرحية)، «رحلة إلى الصير: عن زيارات علوي بن أحمد حسين الحداد إلى رأس الخيمة في القرن الثامن عشر الميلادي»، «منظومات لساكن الصير الشاعر محمد بن صالح المنتفقي» (هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، المجمع الثقافي، أبوظبي)، «جزائر حبيبتي: عن أيام في مدينة الجزائر» (مركز سلطان بن زايد للثقافة والإعلام، أبوظبي)، «ابن ظاهر: بحث توثيقي في سيرته الشعبية»، «أرض الفجر الحائرة» (هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، أبوظبي)، و «عوشانة» (روايته الأولى والأخيرة).